قد لا تصدق الحكومة أن عدد الأردنيين
الذين يتقدمون كل عام الى برنامج التأشيرات الأميركية، من خلال القرعة، عدد كبير
جداً، سنوياً، وهذا مؤشر على ان الكل يريد ان يهاجر بعيدا.
لم تعد القصة، قصة عواطف، إذ إن الرغبة
بالهجرة سائدة بين الشباب غير المتزوجين، وبين المتزوجين، والكل يبحث عن وسيلة
للهجرة، او للخروج الى أي بلد آخر، وسابقا كان مجرد الحديث عن الهجرة، يؤدي الى
نقد اجتماعي من جانب الآخرين، وفي حالات يتم اتهام الذي يتحدث عن الهجرة، بكونه
غير منتم، او لئيم الطباع، او انه بلا وفاء لهذه البلاد وعيشها.
تغيرت الحالة، لا احد يكره الأردن،
طبعا، لكن الكل يختنق، ويبحث عن فرصة للنجاة، بالعمل في اي دولة عربية، اذا توفر،
او بالهجرة الى دول غربية، او حتى في افريقيا.
تجد أردنيين في كل مغتربات الدنيا، بعد
ان كان هذا الامر غريبا، وغير سائد، لكننا بفضل من يخططون لهذه البلاد، نتحول الى
مجتمع جديد له صفاته المستجدة التي لم تكن قائمة، خلال عقود ماضية، وهذه هي
الحقيقة التي تقال مرارا، نحن نعيش في أردن جديد تم توليده قسراً.
سنتحول تدريجيا الى مجتمع كهول على
شاكلة كاتب هذه السطور، وهؤلاء استسلموا لقدرهم، ولا يرغبون حتى بالمغادرة من
صويلح الى الجبيهة، وسنبقى فرادى بعد ان يهجرنا كل قادر عشريني او ثلاثيني، الى اي
بلد آخر، مثلما نفقد صفاتنا الانتاجية تدريجيا، حيث لم نعد مجتمعا صناعيا او
زراعيا، ونتحول الى نموذج دولة الحوالات على الطريقة اللبنانية، حيث اغلب العائلات
الأردنية ينفق عليها أحد ما خارج الأردن، وهذه الظاهرة تشتد، وسنراها غالبة خلال
سنين.
أظهر استطلاع جديد للرأي قام به المعهد
الجمهوري الدولي في الأردن أن العديد من الشباب الأردني فكر في مغادرة البلد من
أجل الحصول على مستقبل أفضل، حيث فكر 45 % من الأردنيين الشباب بين 18-35 عاما
بالهجرة خلال السنوات القليلة الماضية. و35 % فقط يعتقدون أن الشباب سيكون لديهم
مستقبل جيد في الأردن.
أنا أعتقد أن الارقام الحقيقية أعلى
بكثير من هذه الخلاصات، لكن هناك حقائق غائبة من بينها ان الذي ليس لديه مال
نهائيا، مثلا، وليس لديه بوابات نجاة نحو الهجرة، مثل وجود اقارب في المهجر، فلن
يفكر بالهجرة، خوفا منها، لكن اذا تغيرت معادلات بعض هؤلاء، فسوف نجد ان بعضهم سوف
يغادر، بما يرفع نسبة الراغبين بالهجرة، بشكل اكبر مما ترصده اي دراسة.
قدرة الشباب على الابتكار والابداع،
والدخول الى عالم الريادة والمشاريع الصغيرة، والمتوسطة، قدرة محدودة، داخل
الأردن، كما ان الوقوف وانتظار وظائف يدمر معنوياتهم، اضافة الى الالتزامات التي
تترتب عليهم، وتدفعهم لبحث عن حلول خارج الأردن، والكل يعرف ان كثرة من الذين
هاجروا او اغتربوا بالكاد يغطون التزاماتهم، وبعضهم يحمل الديون خارج الأردن، الا
انه نهاية المطاف، يجد دخلا يغطي التزاماته، في ظل جودة لمعايير الحياة، بدلا من
الحياة التي كانوا يعيشونها هنا، في ظل معايير متدنية للجودة، وانخفاض الدخول،
ايضا، وعدم وجود تسهيلات.
أهل بلاد الشام، مثلا، في سورية،
لبنان، فلسطين، وصلوا الى اميركا الجنوبية قبل مائة عام، وهناك الملايين منهم، هذه
الايام، واليوم تجد الأردنيين في استراليا وكندا وكل مكان، فقد ضاقت الحياة، اضافة
الى ان الشرق الاوسط كله ليس صالحا للحياة، ويعيش تحت التهديدات ليل نهار، وكأن
قدره ان يبقى فوق بركان، فلا يأمن المرء على نفسه، ولا على عائلته واهله الاقرب
اليه.
مسؤول بنصف عقل قال لي ذات مرة ان
علينا أن نفخر بوجود الأردنيين في الخارج، فأجبته يومها، ان الدول لا تفتخر عندما
تبدد مخزونها البشرية، ومواردها الاهم، بل عليها ان تحزن على استثمارها الانساني
حين يتوزع مجانا في قارات العالم، بحيث يفيد شعوبا ثانية.
هذه بلاد عزيزة، ومن نكد العيش على من
يحبها، ان يتم دفعه عنوة الى الخروج.
عن
الغد