بعد سنوات عشر، من احتدام صراعات
المحاور وحروبها، تدخل المنطقة في حالة من «السيولة»، ترتبت على حالة الانهاك التي
عاشتها مختلف الأطراف المنخرطة في أزمات المنطقة المفتوحة، وتَعَذّر فرص «الحسم»
في أي من صراعاتها لصالح فريق على حساب الأفرقاء الآخرين، وتفاقم مخاطر الانتقال
من «حروب الوكالة» إلى المواجهات المباشرة، بين جيوش دول كبرى، فضلاً بالطبع، عمّا
أحدثه رحيل إدارة ترامب، ومجيء إدارة ديمقراطية، بخطاب مختلف وسياسات مغايرة، من
تحولات في مواقف ومواقع الأطراف، وتبدّلٍ في أولوياتها وتحالفاتها.
لقد دفع البلدان، الأردن وفلسطين،
أثماناً باهظة جراء سياسات «التخندق» و»الاستقطاب» التي هيمنت على المشهد
الإقليمي، فالمحاور المتنازعة، أبدت قدراً قليلاً من المرونة والتسامح، مع «الأشقاء
الصغار» الذي يتطلعون للتغريد خارج سربها، أو الذين يسعون في إدامة علاقات متوازنة
مع الجميع...هذا خيار لم يكن مقبولاً من «عواصم القرار الإقليمي»، فالمعادلة التي
حكمت العشرية الفائتة: إما معنا وإما علينا...ولقد فوتت الاستقطابات الإقليمية
فرصاً كبيرة على الأردن لتنويع علاقاته ومصادر دخله وأسواقه، وتوظيف نوافذ الفرص
المتاحة...وعمّق الاستقطاب الإقليمي، الانقسام الداخلي في فلسطين، ولعب أدوارا
متفاوتة، في مراحل مختلفة، في تعطيل المصالحة واستعادة الوحدة.
اليوم، تبدو الصورة مغايرة
تماماً...فإن كانت واشنطن تنتوي العودة للاتفاق مع إيران، ورفع العقوبات المفروضة
عليها، والإفراج عن أموالها المحتجزة، فما المانع بالنسبة لبلد كالأردن، أو حتى
فلسطين، من «تطبيع» العلاقات مع طهران...وإذا كانت السعودية، قائدة المعسكر
المناهض لطهران، تنخرط في قنوات خلفية مفتوحة للحوار مع إيران، وإذا كانت
الإمارات، التي تعود لها ملكية الجزر المحتلة الثلاث، تقيم أوسع العلاقات التجارية
والاقتصادية مع طهران، فما الذي سيمنع كل من عمان ورام الله، من شق طرق التفافية
صوب طهران.
الشيء ذاته، ينطبق على العلاقة مع
تركيا، فلم تعد العلاقة مع أنقرة، تطوراً مستفزاً لعواصم عربية وازنة مثل القاهرة
والرياض وأبو ظبي، فهذه العواصم ذاتها، تنخرط بنشاط، في جهود استعادة العلاقة مع
تركيا، خصوصاً القاهرة والرياض، وبات بمقدور أطراف مثل الأردن وفلسطين، أن تذهب في
مشوار علاقاتها مع تركيا، إلى الحد الذي تمليه مصالحها وحساباتها، دون خشية من
ردود أفعال «نزقة» من هنا أو هناك...الشيء ذاته، ينطبق على العلاقة مع قطر، التي
دخلت في مسار خليجي تصالحي، وتعيد رسم علاقاتها مع القاهرة، وتسعى في إعادة تعريف
دورها الإقليمي.
لم يعد الإقليم، ضاغطاً على أي مسعى
أردني لتنويع وتطوير علاقاته مع مختلف عواصم المنطقة...ولم يعد الإقليم، لاعباً
معرقلاً لمسار المصالحة واستعادة الوطنية الفلسطينية، بل يمكن القول إنه بات
دافعاً بهذا الاتجاه...وقبل هذا وذاك، تتولد قناعات لدى أوساط سياسية لبنانية
وازنة، بأن أزمة تشكيل الحكومة، إنما تكمن أسبابها الجوهرية، في الداخل اللبناني،
وبين اللاعبين المحليين، وليس بفعل فاعل إقليمي أو دولي، كما ظلت عليه حال لبنان
لسنوات وعقود مضت.
يكسب أكثر من بين هذه الدول، من تتوفر
دبلوماسيته على قدر أكبر، من المرونة والمبادرة والمبادأة...إذ ليس المهم، أن تتخذ
هذه العاصمة أو تلك، القرار الصحيح، الأهم أن تتخذه في التوقيت المناسب، فما نفع
مبادرات انفتاحية على هذا المركز أو ذاك، بعد أن يكون أنجز انفتاحه على العالم أو
الإقليم بأسره...الاستفادة من العلاقات الثنائية مع أقطاب الإقليم، تتعاظم طرداً
كلما كانت سياسات الدول الصغيرة، قادرة على استنفاد هوامش المناورة، ومتملّكة
للقدرة على الاستشراف والمبادرة، فهل نرى تطوراً ملموساً في أداء الدبلوماسيتين
الأردنية والفلسطينية سواء بسواء؟
عن الدستور