بقلم: الدكتور إبراهيم بدران
بعد احتفالاتنا بالمئوية الأولى للدولة
الأردنية، آن لنا إعادة توجيه انظارنا وعقولنا إلى المستقبل، والنظر بعمق ومسؤولية
في تفاصيل التحديات الكثيرة التي تواجهنا، بل وتهاجمنا بسبب سرعة المتغيرات.
وبرغم الطريق الصعبة التي اجتازها
الأردن بنجاح خلال المائة عام الماضية، إلا ان الفترة المقبلة، تحمل معها اخفاقات
من الماضي، لا بد من تداركها، وفي الوقت نفسه، تدفع بتحديات جديدة أكثر تعقيدا،
وتتطلب حلولها، والاستجابة لها الكثير من العلم والعقل والجرأة والقرار والإدارة
والمشاركة.
وهي ليست حلولا جاهزة يمكن أن نستوردها
من الخارج، بقدر ما هي برامج ينبغي ان تكون من صنع الشعب وقياداته السياسية
والعلمية والفكرية، ودون الترفع عن الافادة من تجارب الآخرين أو تجاهلها.
ونشير هنا إلى تحديات أصبحت مشكلات
معقدة، بسبب التأجيل والتسويف والترحيل والتبسيط، وفي مقدمتها التحول الديمقراطي،
والمشاركة في القرار، وتفاقم البطالة، والمياه والبيئة والطاقة، وانتاج الغذاء،
والإدارة الرسمية، والنمو الاقتصادي والتصنيع والزراعة والسياحة، وتآكل الطبقة الوسطى،
واتساع مساحات الفقر والجوع، وإصلاح التعليم والنهوض بالمرأة والشباب والثقافة.
هذا إضافة إلى جائحة كورونا وآثارها.
وقد تكررت الاشارة والتحليل لهذه
المشكلات من الباحثين والمفكرين والسياسيين والمسؤولين أنفسهم، لكن برنامجا جذرياً
ينهي أي مشكلة بشكل قطعي لم يتحقق. وهنا لا بد من الدخول الجاد لوضع الحلول
وبطريقة مختلفة عن النمط التقليدي، والذي كان عنوانه: “قل ما تشاء ونحن نفعل ما
نشاء”.
اولا: القطاع العام ويشكل نحو 38 % من
القوى العاملة الأردنية، وهو رقم ضخم بكل المقاييس، حيث المعدل في الاتحاد
الأوروبي 15 %، يضاف إلى ذلك أن الحجم الضخم لأجور هذا القطاع 48.3 %، يشكل
استنزافا للنفقات العامة، ويضع الأردن كأعلى دولة عربية بعد السعودية في نفقات
الجهاز الرسمي بالنسبة لنفقات الحكومة. في حين ان هذه الأجور في بلد مثل قبرص لا
تتعدى الـ29.5 % وفي سويسرا الـ7 % فقط.
ومن تجربة السنوات الماضية، فإن اجراء
أي تغيير حقيقي في أداء الجهاز الرسمي ضئيل المردود، فهذا الجسم الثقيل وهذه
النفقات، كفيلة بايقاف أي تغيير جذري وإعاقة أي مشروع.
وهنا لا بد من المعالجة بمقاربة
مختلفة، تقوم على الكفاءة والمهارة المتجددة، وتحويل الترقية من الأقدمية إلى
اجتياز دورات ومهارات تخصصية، وتحقيق إنجازات واداءات مسبقة التحديد، والتخفيض
التدريجي لحجم هذا الجهاز.
ثانياً: التحول الديمقراطي: لم نفلح في
التحول الديمقراطي، فدليل الديمقراطية لدينا 3.62 (من 10) في حين ان المتوسط
العالمي 5.37، اما الحقوق السياسية فإن مؤشرها لدينا 3 والحقوق المدنية 4.2، برغم
ان أول حكومة شكلتها الأغلبية البرلمانية المنتخبة كانت العام 1956 أي قبل 65
عاماً. وان دولا كثيرة نشأت بعد الأردن استطاعت التحول السريع، مثل قبرص وسنغافورة
وموريشس وغيرها.
ومن الجانب العملي التطبيقي، فقد اثبتت
الإدارة “الفردانية” ضعفها وعجزها عن احداث التغيرات المطلوبة لانها لا تستند على
قوة انتخابية حقيقية. فعلى الإدارة الحكومية والسياسيين الإدراك على نحو قطعي، بان
التحول الديمقراطي والمشاركة في القرار ليس رفاهية وتطلعا سياسيا ورغبة في السلطة،
بقدر ما هو لازمة لإدارة البلاد بشكل فعال ومنتج، وأن يتذكر الجميع بأن زمن
الريعية والمساعدات والمعونات غير المشروطة قد انتهى، وأن الدولة إذا لم تعتمد على
نفسها أي على مواطنيها، بعلمهم وعملهم ومشاركتهم فلا مستقبل أمامها. ولا بد من
الاعتراف بأن الحكومات المتعاقبة لم تضع رؤية واضحة للمشاركة مع القطاعات الأخرى،
ولا لدور الأحزاب في الحياة السياسية، وهو أمر لا ينبغي ان يستمر اليوم.
وهنا لا بد أن تخرج الأحزاب ومنظمات
المجتمع المدني من النقاش والدوران الكلامي إلى جوهر الفعل السياسي، وذلك عبر
تشكيل تآلفات أو اتحادات تجمع الأحزاب في مجموعات مستقرة، وتضع مجتمعة رؤية واضحة
لمستقبل عملها في وثيقة وطنية، تقرها الحكومة ومجلس الأمة، ليكون لها دورها مع
الحكومة في صنع القرار، وتغيير قانوني الانتخاب والأحزاب.
من جانب آخر، فإن استمرار الأحزاب
صغيرة متفرقة تعمل بانفراد، لان يشكل قوة عمل فاعلة ولا مجموعة ضغط حقيقية، ولا
يقنع الشارع بالاطمئنان للعمل معها وفيها. وكضمان للعمل وفق منظومة وطنية بعيدة عن
الأهداف الخاصة والارتباطات غير الوطنية، لا بد من وضع مدوّنة سلوك للأحزاب، تضعها
اتحادات الأحزاب لتكون ملزمة لها اخلاقيا ووطنيا.
ثالثاً: النمو الاقتصادي: كان واحداً
من نجاحات الأردن في القرن الماضي يتمثل ببناء مؤسسات اقتصادية لصناعات وطنية
قوية، ومؤسسات زراعية وسياحية وعلمية وتعليمية متميّزة، بالإضافة إلى مؤسسات
إدارية محل ثقة واحترام.
إلاّ ان الأخطاء التي لم تصحح في الوقت
المناسب، تراكمت وفرضت تراجعاً اقتصادياً كبيراً، تمثل بانسحاب الدولة من
المسؤولية الاقتصادية والمجتمعية، باستثناء ما له علاقة بتحصيل الأموال والمعونات،
واستغراقها في الجانب المالي، كبديل عن العمل الاقتصادي، والدخول في الخصخصة
الخاطئة، والهروب إلى الاستدانة والمساعدات عند الضرورة.
منذ 30 عاماً ونحن نسير في غياب رؤية
اقتصادية حقيقية.. وتحوّل الأمر إلى مجرد تسيير للأعمال ومتابعة يومية. وبذلت
القطاعات جهودها لتنمو بقدر ما استطاعت، في مناخ من المنافسة الدولية وعدم
الاستقرار الإقليمي، وفتح باب الاستيراد المفرط، وعدم استقرار التشريعات. وخلال 30
عاماً تحرك نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي من 830 ديناراً العام 1990 إلى
2876 ديناراً العام 2020، وتقلص حجم الطبقة الوسطى وزادت مساحات الفقر وتهمشت
المحافظات.
هذا برغم المليارات التي انفقت على
البنية التحتية والجهاز الوظيفي، وليس المشاريع الانتاجية. وفي الوقت نفسه ارتفعت
المديونية من 6.4 مليار دينار العام 1990 إلى 32 مليار دينار العام 2020 برغم
المنح والمساعدات.
ونشأ عن الانسحاب الاقتصادي وغياب
الرؤية، تراجعات كبيرة في المياه، وصلت حد العجز، وفي الطاقة والزراعة والصناعة،
وهو أمر لا يجوز استمراره لأن الأمن الاقتصادي ركن أساسي من أمن الدولة.
وكان من تنائج بطء النمو الاقتصادي،
تزايد البطالة سنة بعد سنة، حتى وصلت إلى 24.5 % العام 2020 مقارنة بالمتوسط
العالمي 5.42 % ومصر 9.6 %.
يتطلب الخروج من هذه الأزمة، المبادرة
بوضع وثيقة اقتصادية وطنية تضعها نخبة مفكرين وعلماء وخبراء وأحزاب، بالتشارك مع
القطاعات ذات العلاقة، تقوم بشكل أساسي على معطيات الاقتصاد الاجتماعي الحديث
بعناصره الرئيسية والمتضمنة: تحويل الاقتصاد الوطني إلى صناعي حديث، بتقليص
الاستيراد وانشاء صناعات بديلة وجديدة، والإفادة من الصناعات الكبرى القائمة بمشاريع
تصنيع مستلزماتها القبلية والبعدية.
كذلك، التحول السريع لمكننة وتصنيع
الزراعة، والتوسع بالطاقة المتجددة، بخاصة الشمسية، والمباشرة الفورية في انشاء
محطة تحلية مياه لمواجهة العجز المائي، وانشاء عاصمة اقتصادية في كل لواء، والتحول
نحو التمويل المجتمعي للمشاريع عبر التعاونيات والشركات المساهمة العامة
للمواطنين، (فمساهمة كل موظف في الدولة بدينار واحد شهرياً كفيل بإنشاء 25 مشروعا
متوسط سنوياً)، وإعادة بنك الانماء الصناعي، وجعل مادة “الريادية والمشاريع”
اجبارية في المدارس والمعاهد والجامعات. هذا اضافة إلى مساهمة البنوك والشركات
الكبرى وصناديق الاستثمار والادخار بالتمويل الجزئي أو الكلي للمشاريع الجديدة.
إن المئوية الثانية، لا تحتمل الدوران
في التصريحات والبيانات، بل تتطلب رؤية مستقبلية تجديدية، فالشعب بإمكاناته
ورأسماله البشري المتميّز، قادر على العمل والإنتاج اذا شاهد العمل الأمين الجاد
بعيداً عن الفساد الإداري والمالي، وإذا استطاعت الحكومة استعادة ثقته بالعلم
والعقل والاخلاص والعمل ثم العمل.
*وزير التربية والتعليم الأسبق