هذا مقال كنتُ قد نشرته قبل ثلاثة أسابيع فقط، يصف استشراء الظلم في
بعض الجامعات، وأعيد نشره الآن بأمل أن نلتمس حكمة مضمونه بأثر رجعيّ.
قرأتُ مقالة زميل يصف معاناة أستاذ جامعي مِن تسلّط بعض المسؤولين في
جامعته، وتقصّدهم معاقبته وتعطيل ترقيته، ولأنّ هذا الزميل هو أخي في الهمّ والوجع
والأسى، ولأنّ الشجى يبعث الشجى،
أقول له دون أن أعرفه :
أُقسمُ عنك أنك ما بكيتَ على ترقيتك، أو بسبب عقوبة حلّت بك.
ــ أنت تبكي وطنا يُظلم فيه الأستاذ الجامعي لأنّ نفسه أبيّة ترفض أن
تُبتذل على أبواب اللؤماء، أو تتهافت على فُتاتهم المجبول بالذلّ .
ــ أنت تبكي وطنا أصبح فيه وصول الأستاذ الجامعي إلى أدنى أساسيات
حقوقه مُغمّسا بالمرارة والمغامرة، أو المداهنة والمراوغة، أو التملق والتزلف
والتودّد المزيف، أوالمجاملة الكاذبة المقيتة، أو التوسّط والتوسّل والتسوّل...
ــ أنت تبكي وطنا يتسنّم بعض إدارات بعض الجامعات فيه ضعفاء رعاديد
يستقوون بالمنصب، وبإمضاء قلم ينفث السمّ، يكرهون الأستاذ الجامعي القوي لأنه يذكرهم
بضعفهم، الجريء لأنه يُثوّر هلعهم وجبنهم، النظيف لأنه يحتقر قذارتهم وسخائم
قلوبهم، الجادّ الملتزم لأنه يعرّفهم بعبثهم وغشهم، الأمين لأنه يوقظ خيانتهم،العادل
في علاماته لأنه يُشير إلى تلاعبهم، الشريف في علاقاته لأنه يدمغ خسّتهم ودناءة
أخلاقهم...
لذلك تراهم يحرصون على نضح خفاياهم، وذمّ غيرهم بما يَغرقون به هُم
أنفسهم من رذائل، فيصدق فيهم قول المتنبي :
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص فهي الشهادة لي بأنّي كامل
ــ أنت تبكي وطنا بعض المسؤولين في بعض جامعاته كانوا نُزلاء سجون،
يرتكبون جنايات يندى لها الجبين، لا يقترفها إلا سُخفاء رُعناء يفتقرون إلى حكمة
المجانين، ويسيئون بذلك إلى مُسمّى الأساتذة الجامعيين، لأنهم دُخلاء على هذه
المهنة النبيلة المقدسة، أُصلاء في الاتجار بكلّ ما هو مُشين، صِبيانُ أسواقٍ قد
مهروا في المطاعم والدكاكين، ديدانٌ تقتات على أبحاث الآخرين، وتصطاد المال الحرام
بشهادات التوفل، وما هو دون ذلك في الفساد أو أكبر، ليقيموا الولائم، ويوزّعوا
الهدايا على أدنياء النفوس، الذين يقعون عليهم لأنهم غِربان مثلهم, أخلّاء في الخزايا، شركاء في الشرور، وكأنّ
الشاعر كان يخاطبهم بأعيانهم دون غيرهم :
عن المرء لا تسأل وسَلْ عن قرينه فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
ــ أنت تبكي وطنا في بعض جامعاته قد تجد المسؤول الكبير صغيرا في
مسلكه وأسلوب إدارته، يجمع حوله من يتقن هزّ الرأس إلى أسفل، قد برع في فنّ "السيرك"،
وألاعيب الحُواة، يتلفّع بالتعليمات التي يرفع بها من يتملّق إليه ويصدّقه، ويضع
بها من ينصحه ويصدُق معه، ويتقنّع
بتصريحات إعلاميّة مكرورة ممجوجة عن التزامه بالتوجيهات والتوجهات ليُظهر انتماءَه
المزيّف للوطن وهو أحد معاول هدمه.
إذا طالبَهُ أستاذ جامعي بحقّه
ورِمتْ نفسُه، وارتعدتْ فرائصه، وظنّ ذلك إعلانا للثورة عليه، فيأمر المسؤولَ
الأصغرَ منه، والأسفلَ دونه، أن يتصدّى لهذا الخطر الداهم، فيلجأ هذا الصغير الغارق
في دِمنة الشرّ، العالق بين طحالب الفتنة، إلى الافتراء على هذا المدرس، واختلاق
أيّة شبهة من تلبيس إبليس ليوجّه له الاتهام، ثم يأتي دور بعض اللجان من بعض الإمّعات
عديمي الضمير ضعاف النفوس, للمصادقة على المكيدة الظاهرة، فيتمّ إخراج المسرحية
الدامعة الفاجعة الهزلية، وصبغها بالمراهم الخادعة القانونية ، لتتْبعها العقوبات
العمياء التي تقتل الانتماء, وتخنق الأمان الوظيفي والمجتمعي، وتضيّع الأوقات
والأموال في أروقة القضاء .
وبنك التهم عامر، والاختيارات كثيرة : هذا يسرّب الأسئلة والتعليمُ عن
بعد، وهذا يصعّب الأسئلة والتعليمُ عن قرب، هذا يحترم الطلاب علناً، وهذا يُحرّض
الطلاب سرّاً، هذا يسرق الأبحاث، وهذا تخصُّصه حاسوب وأبحاثه في التربية...!!!
وقد يرتفع منسوب التهم حسب إصرار المدرس المتَّهم على المطالبة بحقه :
هذا يُسيء للمؤسسات الوطنية الناجحة، وهذا علاقاته مشبوهة فاضحة، وهذا له ارتباطات
بقُوى خفيّة على المرّيخ، وهذا له مزرعة فجل أو عريشة بطيخ !!! وبعض لجان التحقيق
حاضرةٌ للمصادقة والتلفيق والتوثيق غبّ الطلب ووفق الرغبة .
ــ أنت تبكي وطنا كان يكفي أن يصرخ فيه مظلوم صرخة واحدة ليسمع
المسؤولون صوته، فيستدعونه ليفهموا شكاته، ويرفعوا مظلمته، والآن يقف الأستاذ
الجامعي يائساً مكبّل اليدين، أو مُشتّت الجهد على أبواب بعض الأعيان أو النواب أو
الوزارات أو المجالس أو الهيئات... يُبدئ ويعيد وهو يشرح مصيبته ومصيبة الجامعة
والوطن في هذه الفئة الظالمة من المسؤولين، ثم يعود بخفّي حُنين .
أعرف معاناتك يا أخي، وكثيرٌ من زملائك مثلك غارقون في مثلها :
يا نائح الطلح أشباهٌ عوادينا نشجى لواديك أم نأسى لوادينا
وألتمسُ لك عذرا لبكائك، لأنه من قهرٍ استعاذ منه نبينا الكريم، عليه
الصلاة والتسليم، لكنْ أهمس لك :
كفكفْ دموعك ليس ينفعك البكاء ولا العويل
إن الذي ينفعك وينفعنا هو أنْ نواجه الظلم في بعض الجامعات، ونستمرّ
في المواجهة، ونستعدّ لدفع مهرها، فالجامعات تستحق منّا ذلك، ومهنتنا الشريفة هي
مهنة الأنبياء والتضحية والفداء، وطلابنا الذين نُربّيهم ونعلّمهم كأبنائنا
يستحقون أن تخلُد صورنا في أذهانهم بأنّنا أقوياء حكماء لا نقبل الضيم، لنحظى
باحترامهم، ونكون قدوة صالحة لهم .
وأمّا هؤلاء الظلمة فحتْماً ستدور الدائرة عليهم: لظلمهم جولةٌ، ولحقّنا
جولات، وحصّتهم في البكاء آتية لا محالة، فالأيام دول، ومن يضحك أخيرا يضحك كثيرا،
والشرّ بالشرّ والبادئ أظلم .