بدايةً رحم الله شهداء الإهمال الوظيفي والفساد الإداري وغفر لهم
وأسكنهم الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا، وأعظم
الله أجر الوطن في مصابه الجلل.
مع موجة الغضب العارمة التي أعقبت حادثة نقص الأكسجين في مستشفى السلط
الحكومي وأودت بحياة مجموعة من أبناء الوطن الأبرياء بلا أدنى خطيئة أو ذنب اقترفوه،
تسارع مديرو الصحة والمستشفيات إلى التفتيش على خزانات الأكسجين في المستشفيات
التابعة لكل منهم وانهالوا علينا بكمٍ لا بأس به من التصريحات مفادها أن كمية
الأكسجين في هذه المستشفيات كافية ووضع من يقيمون لديهم على أجهزة التنفس آمن
ومطمئن، وأصبح شغلهم الشاغل هو التأكد من توفر كميات كافية من الأكسجين في خزان كل
مستشفى، وكأن المشكلة انحصرت في عدم توافر كميات كافية من الأكسجين في ذلك اليوم
المشؤوم فحسب، ولم يمت أحد بسبب إهمال وظيفي أو فساد إداري إلا في تلك الحادثة
الأليمة ولذلك السبب اللعين، والآن يُريدون أن يرسلوا للشعب رسالة مفادها بأننا
اكتسبنا حصانة ضد الإصابة بنقص الأكسجين ولن يتكرر ما حدث بتاتًا.
نعم يا سادة، وأنا أيضًا أؤكد أنه أصبح لدينا حصانة ضد الإصابة بنقص
الأكسجين في مستشفياتنا، ولن نفقد عزيز علينا بسبب نقص الأكسجين أو عدم توافره في
مستشفى ما بعد اليوم بإذن الله تعالى؛ لأنه باختصار سيصبح موضوع توافر الأكسجين في
المستشفيات الأمر الأهم لدى مَسْؤُولِي وزارة الصحة بدءًا من الوزير ومرورًا بِمُدِيرِي
الصحة وَمُدِيرِي المستشفيات ومساعديهم وَمُدِيرِي التزويد وَمُهَنْدِسِي الصيانة
وانتهاءً بالممرضين والقائمين على رعاية المرضى ومتابعتهم، وسيكون موضوع كمية
الأكسجين هو افتتاحية أي اجتماع وخاتمته، كما سيكون ذلك الأمر حاضرًا في ذهن ووجدان
أي وزير سيتسلم وزارة الصحة بعد اليوم بدءًا من قسمه لليمين الدستورية، ولا أستبعد
أن هذا الهاجس سيوقعه في خطأ إضافة الجملة التالية إلى القسم الدستوري: "وأن
أتأكد من توافر كمية كافية من الأكسجين في جميع مستشفات وزارة الصحة". كيف
لا؟! وقد أصبحت هذه الحادثة قضية وطن، وحظيت باهتمامٍ مباشرٍ من جلالة الملك الذي ذهب
على عجلٍ إلى مستشفى السلط الحكومي للوقوف على ملابسات ما حدث واتخاذ القرارات
اللازمة والفورية، والتي كان مفادها أنه لا مكان لفاسد في المنظومة الإدارية، وليس
هذا فحسب، بل ولن ينجو فاسد أو مقصر من العقوبة وخصوصًا إذا ما وصل الأمر إلى حياة
المواطنين والعبث بأمنهم وسلامتهم.
ولكن، هل التقطنا رسالة صاحب القرار بالشكل المنشود وبالقدر الكافي من
الأهمية؟ أم ستمر هذه القضية مرور الكرام كما مرت غيرها من القضايا؟ وهل سيكون
تركيزنا في المرحلة القادمة على كمية الأكسجين في خزانات المستشفيات أم سنستطيع نقل
أثر التعلّم من موقف إلى آخر، وبالتالي سنقوم بمراجعة وتقييم كافة السياسات
والعمليات والإجراءات والملفات كي نضمن أن خط سير عملنا في الاتجاه الصحيح وأن ما
نقوم به من إجراءات لتضميد جراح الوطن الناتجة عن الصدمات المتتالية والمتعاقبة
ناجع وذو أثر فعّال؟ وهل ستعلمنا تلك الحادثة الأليمة مهارات التخطيط الفعًال
والشامل المتكامل، وتُنمي لدينا روح الإبداع والمبادرة والتفكير خارج الصندوق
للوقوف سَدًّا منيعًا ضد كل ما يهدد أمن الوطن وسلامة المواطن ومنع حدوث ما لا
يحمد عقباه؟ أم سنستمر بالسير على النهج ذاته القائم على الحفظ عن ظهر قلب دون
الفهم، وننتظر حدوث المصائب والفواجع _ لا
قدر الله _ لنقوم بردود الفعل والفزعات المعهودة لتصحيح خطأ وقع وأدى إلى كارثة؟
متى سننتقل من العمل بردود الفعل إلى المبادرة في فعل كل ما من شأنه رقي الوطن
وتطوره وازدهار الحياة فيه وتوفير سبيل العيش الكريم للمواطن؟ متى سنؤمن بشعار:
"دِرهم وقاية خير من قِنطار علاج" ونعمل على تحقيقه بكل أمانة ومسؤولية
واقتدار؟ متى سننظر إلى المنظومة ككل لا كأجزاء متناثرة مبعثرة لا روابط بينها؟
متى ستكون نظرتنا لكل ما يقع تحت مسؤولية كل منا نظرة شمولية متكاملة وكُلّية لا جُزئية
مشتتة؟ متى سيرقى لدينا الحس بالمسؤولية إلى مستوى ما يُلقى على أعتقانا من
مسؤولياتٍ جِسَامٍ؟ متى سننظر إلى المناصب ومواقع المسؤولية على أنها تكليف لا
تشريف؟ متى سنراقب مستوى الوعي بالمسؤولية وحجم الضمير لدى كل منا كما سنقوم
بمراقبة نسبة الأكسجين في خزان المستشفى؟
وفي النهاية، وبناءً على ما سبق من أحداث وصدمات مؤلمة وما شاهدناه في
السابق من إدارات وحكومات ردود الأفعال فمن المتوقع أن ينصب الاهتمام في اَلْمرَحلَة
القادمة على نسبة الأكسجين في خزان كل مستشفى، وبالعامية: "سيكون الأكسجين
للركب في المستشفيات"، ولكن لن نتوقع بتاتًا أن تكون هذه الفاجعة الأخيرة
التي تؤلم الأردنيين وتُغضب صاحب القرار، ما لم يكن هناك تغير في النهج لا في
الأشخاص، بدايةً من نهج وآلية اختيار الوزراء والمسؤولين. فكم من رئيس حكومة طالب
أعضاء حكومته الذين وقع عليهم الاختيار من تقديم رؤية شاملة متكاملة لتطوير
الوزارة التي سيتولى مسؤوليتها ومعالجة كافة القضايا والملفات العالقة فيها
والمشاكل اَلْمُرَحَّلَة من الحكومات السابقة، وقام بتقييم أعضاء حكومته ومحاسبتهم
بناءً على ذلك؟ وكم من نائب اخترناه بناءً على برنامج انتخابي شامل ومتكامل يقوم
على أساس ترسيخ الدور التشريعي والرقابي لا الخدماتي لمجلس النواب؟ وكم من مسؤول
تم اختياره على أساس الكفاءة والحس بالمسؤولية والقدرة على القيام بالواجبات
الموكلة إليه بكل أمانة واقتدار؟ وكم من مقصرٍ وفاسدٍ ومجحفٍ في حق الوطن والمواطن
تمت معاقبته بحجم ما ارتكبه من أخطاء قد يصل بعضها حد الخيانة العظمى؟
وأخيرًا، فإنني أرجو الله العلي القدير أن تكون حادثة مستشفى السلط
آخر فواجع الأقدار وآخر ما يؤلم الشعب الأردني وقيادته، وأن يرحم من فقدناهم في هذه
الفاجعة وجميع موتى المسلمين والمسلمات، وأن يحمي الأردن ويُجنبه كل مكروه، وأن
يحفظ جلالة الملك ويرزقه البطانة الصالحة.