في مقالة سابقة بعنوان التصنيفات العالمية في بعض الجامعات، ذكرنا أنّ
أيّ إنجاز تحققه أيّة جامعة وطنية هو إنجاز للوطن كلّه، والوطن به حقيق. وأشرنا
إلى أنّ الخشية تتمثّل في جعل التقافز على سلّم التصنيفات العالميّة مطلباً جذرياً
جوهرياً يطغى على مطالب أخرى كثيرة لا تقلّ أهمية، وتمَنينا ألّا يتمّ تضخيم أيّ
إنجاز إعلاميّاً ليرفع كثيراً سقف مستوى الجامعة شكليّاً، بينما تظلّ أمور أخرى
أساسيّة جداً تزحف على الأرض، فتتّسع الفجوّة بين الواقع الداخليّ الحقيقيّ،
والتصوير الخارجيّ الإعلاميّ.
والذي يعنينا هنا هو الالتفات إلى مستويات التعامل الإنسانيّ
الأكاديميّ والإداريّ، التي تجعل المدرّس أكثر عطاءً، وأعظم انتماءً، وأشدّ فخراً
بإنجاز جامعته لشعوره بأنّه جزءٌ فعّال من هذا النجاح، فيفرح له، ويقتنع به،
ويدافع عنه.
فهل هذا هو الواقع حقّاً؟
الحقيقة أنّنا لن نعدم أمثلة عديدة في بعض المواقع في بعض الجامعات
تثبت هذا الانطباع الإيجابيّ، وسوف نرى نقاطاً مضيئة تؤكده وتُدلّل عليه، فيجد
المدرّس نفسه في جوّ أكاديميّ نقيّ، وتعامل إداريّ سويّ، حقوقه محفوظة في العبء
التدريسيّ، والإضافيّ، والترقية، والتفرّغ العلميّ....إلخ، فيتفرّغ لعمله، ويُقبل
عليه بجدّ وهِمّه، ويبدع في أبحاثه، ويتصالح مع ذاته، ويتوازن في علاقاته......
باختصار: يشعر بالأمن الوظيفيّ، ويتحقّق لديه احترام الذات، فيلتصق بمؤسسته، ويكون
عنصراً متناغماً في فريق متجانس متراحم.
لكننا في المقابل نتجرّع الأسى ونحن نلاحظ أمثلة أخرى نقيضة، يعاني
منها مدرّسون آخرون في مواقع أخرى، ويتذوقون مرارتها، فتنهدم في دواخلهم روح
الانتماء، وتنضب الرغبة في العطاء، وتضطرب العلاقات، وتزداد الخلافات، وتشيع
الشحناء، ويتشتّت الذهن فتكثر الأخطاء...... وكلّ ذلك ينعكس سلباً على الجوّ
الإنسانيّ للعمل، فيخيّم الإحباط، ويتبدّد الأمل.
والأمثلة على هذا أيضاً وفيرة غزيرة، تكاد تستعصي على الحصر والتعداد،
وتشمل بعض مناحي العمل الأكاديميّ والإداريّ مثل غياب الشفافية أو الموضوعيّة في
بعض التعيينات، أو التشكيلات الإدارية، أو الترقيات، أو إيقاع العقوبات، أو التشدّد
في بعض المخالفات مقابل التجاوز والتهاون في بعضها الآخر....ولو مضينا نقف
بالتفصيل على هذه الأمثلة لضاق عنها المقام،
وقديماً قيل: إذا اتسع الفهم ضاقت العبارة. وأقرب منه قول الشاعر:
وليس يصحّ في الأذهان شيءٌ
إذا احتاج النهار إلى دليل
لكنّنا نجتزئ مثالاً واحداً قد يكون دالّاً على ما نحن بصدد إثباته من
الخلل في الجانب الإنسانيّ في بعض الجامعات.
مدرّس، مثلاً، يرى أنّ له حقّاً عند جامعته، فيبدأ مخاطباته سعيّاً
للوصول إلى هذا الحقّ، وتتوالى مخاطباته في الموضوع نفسه شهوراً طوالاً، وهو
متحصّن بالصبر، متسلّح بالإصرار على المطالبة بحقّه، حريص على سمعة جامعته، يحصر
مخاطباته داخل الجامعة، ولا يلجأ إلى أيّة جهة خارجها، ويطول به المقام، ويتضخّم
المقال، ويبقى الأمر على ذات الحال: المدرّس يكتب ويطالب، والمؤسسة تتجاهل وتتغافل
ولا تكلّف نفسها عناء الإجابة عن أيّ سؤال.
ويطلب المدرّس من قِسمه تزويده بما يُثبت ما رفعه من استدعاءات
ومخاطبات، فيقال له: لا يوجد في القِسم سجل وارد وصادر، وهذا طبعاً يتنافى مع
أبجديات مخاطبات المؤسسات، فيطلب أيّ إثبات من الكليّة، فيقال هذا ممنوع بأمر
العمادة، فيختزل طلبه إلى مجرّد تزويده بأرقام الصادر أو الوارد لمخاطباته التي
تعنيه، ولم يتلقَّ أيّ ردّ عليها، فلا يقابَل إلّا بالرفض والصدود، فتكون النتيجة
أنّ هذا المدرّس قد سلّم استدعاءات تتضمّن مطالبته بحقّه، لكنّه لا يملك أيّ دليل
على تسليمها، وليس بمقدوره إثبات أنّها وصلت إلى الجهة المعنية، وأنّه لم يحظَ
بردود عليها، فيضيع حقّه بين الدواوين، ويتلاشى في ذهنه الشعور بوجود العمل
المؤسسيّ السليم، والمراسلات الرسميّة الموثّقة الموثوقة، ويتنامى لديه شعور بأنّه
ضائع في فراغ غير متناهٍ، لا علاقة له مطلقاً بعالم الواقع، فيُلحّ في المخاطبات
ليخرج من هذه الدوامة، فينزعج المسؤولون من استمرار مخاطباته، ومن الإصرار على
مطالباته، فيشرعون في مضايقاته، وتصيّد هفواته، واختراعها إنْ لم تكن موجودة،
وتنهال عليه الاستجوابات، ولجان التحقّق والتحقيق، وإيقاع العقوبات، وتضييق
الخناق، وتكثيف الإرباك، أملا في أن يفقد توازنه، ويتهاوى صموده، وتنهار إرادته، ليجد
نفسه في قلق على وظيفته، وقوت أسرته، فيتخلّى عن أحلامه بالوصول إلى حقّه، ويصبح الحفاظ على
ما تبقى له أكبر همّه، وتتضخم صورة وهميّة لعظمة المسؤول في ذهنه، وتتقاصر همّته
عن منافحته ومقاومة ظلمه، وتتدانى مطالبه فتنحصر في مجرد الظفر بالسلامة، فيردّد
مستسلماً مع الشاعر:
لقد طوّفت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
فهل هذا هو التعامل الإنسانيّ الذي نتمناه ونسعى إليه؟ وماذا تفيدنا
كلّ التصنيفات العالميّة الوهميّة أو الحقيقيّة التي نحصل عليها إنْ كان المدرّس
يضمّ جوانحه على شعور مرّ بالظلم وصعوبة الوصول الى الحق؟ وما الجيل الذي سينشأ على
يدي مدرّس مهموم مأزوم مهضوم الحقّ يصارع القلق؟ وما الذي سيجنيه الوطن من الإبقاء
على ثلّة من المسؤولين، انطلقت أيديهم للبطش ببعض المدرسين الذين يصرون على مقاومة التسلط الجائر مهما كانت
النتائج , ولا ذنب لهم سوى أنّهم تربّوا على رفض الظلم وإباء الضّيم، يواجهون
الباطل فيخسرون وظائفهم لأنهم أبَوْا أنْ يتخلّوا عن مبادئهم، أو يتنازلوا عن حقوقهم؟
ولماذا تغيب عن بالنا المخاطر التي قد تترتّب على ذلك ، والانشغال بكلّ ما لا يفيد
مصلحة الجامعة والعمل، أو فقدان الأمل بوجود الأمن والعدل؟
أيّها المسؤولون، يا سامعي الصوت، بعض المدرسين في بعض الجامعات على
حوافّ اليأس، يستحضرون ما قاله خليل مطران للمستعمرين، فيعيدون ترديده بكلّ أسى
لأنه هذه المرّة يصف حالتهم مع أبناء جلدتهم من بعض المسؤولين في جامعاتهم:
شرّدوا أخيارها بحراً وبرّاً واقتلوا أحرارها حــرّاً فحـــرّا
إنما الصالح يبقى صالحاً آخر الدهر ويبقى الشـــرّ شــرّا
كسّروا الأقلام هل تكسيرها يمنع الأيدي أن تنقش صخرا؟
قطّعوا الأيدي هل تقطيعها يمنع الأعين أن تنــظر شـــزرا؟
أطفئوا الأعين هل إطفاؤها يمنع الأنفاس أن تصدر زفرا؟
أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم وبه منجاتنا منكــم فشــكـرا!!