صديقي وأخي الكبير أبا عمر،
نحن على وشك الاحتفاء بالذكرى التسعين لهبوطك
الهادئ في عالمنا الفاني. ونحن، في غضون بضعة أشهر، سنحيي الذكرى العشرين لصعودك،
الهادئ أيضا، إلى رحاب الباري. فسلام عليك يوم ولدت، وسلام عليك يوم رحلت.
أبثك - صديقي وأخي الحبيب خالد - هذا الرثاء غير التقليدي على وقع أغنية:
"أمل حياتي" لنحلق فيها سويا، وأنت الغائب الحاضر، مع إبداعات كاتبها (أحمد
شفيق كامل) الذي نظم أبياتًا أهداها إلى أغلى حب يرفرف في قلب إنسان، ليس هذا
فحسب، بل حب خلق ليدوم. وصدقني، أيها الغالي، أنني أكثر ما استحضر عند سماعها
علاقتك – وأنت "رجل العائلة" الدافئ المتابع- مع توأم روحك سيدة "دارة
الفنون" سهى شومان (أم عمر) التي أعطتك حياتها... في حياتك، ثم منحتك ما تبقى
من حياتها... منذ رحيلك.
لطالما استذكرت عنك، يا أخي الحبيب، ضمن ميزات عديدة، ميزتين كبيرتين: "الريادة
في الأنسنة... والريادة (المشروطة وبقدر) في المكننة!"، وأقول المشروطة؛ لأن كل
ما فيك – بشهادتي وبشهادة أقرب مقربيك - لم يكن له علاقة بالأرقام الجامدة
وبالإحصاءات الصلدة والآلات الصماء "الجديرة" برجال أعمال وأصحاب بنوك
حولتهم التفاصيل إلى آلات، وجففت فيهم ملامسة الحياة الدفاقة بالبساطة. ورغم
وراثتك لبساطة والدك المؤسس عبد الحميد (رحمه الله) إلا أنك وكخريج كامبردج؛ كنت
مطلعا بعمق على طبيعة الحياة والثقافة الإنسانية. فكل هذه الأرقام وتلك الآلات،
قمت أنت بتوظيفها في مصلحة البشر/ الإنسان/ الموظف/ الأجير، في تناغم فريد ندر أن
عرفته مؤسسات "وحش" القطاع الخاص! وفي هذا السياق، صب شلال تبرعاتك
السخية، سواء في اتجاه العمل الوطني (وخاصة القدس، التي كانت منها الإنطلاقة
الأولى وملاعب الصبا، وكانت ذكرياتك فيها من أجمل ما حملته ذاكرتك، وكان حنينك لها
لا تحده حدود) أو في الاتجاه الإنساني، وبالذات الثقافي/ الفني مع (أم عمر):
رفيقتك حتى اللحظة الأخيرة... وما وراء اللحظة الأخيرة!، كيف لا، وأنت حامل شرف
الريادة في تأليف وعزف سيمفونية؛ قوامها التآلف والتناغم غير المعهود بين الحاضر
والمستقبل، بين البشر والآلة، بين الإنسان والرقم!
لقد كنت – يا صديقي المتفهم لشكاوى وأوجاع الآخرين - دائماَ صافي الذهن،
متصالحا مع نفسك، غير مشتت الأفكار، تحسن السماع وتجيد الحديث بهدوء، وتترك لدى
سامعك إحساساَ عميقاَ بقيمة ما يقول. وكنت صافياَ في طلعتك، وفي سريرتك أيضا. كنت
لينا، واسع الصدر، لا تغلق باباَ على موضوع فيه أمل أو رجاء لأحد، وكنت سمحا
كريما، وقد أعطيت، بسلوكك هذا، "البنك العربي" لونا إضافيا كان ضروريا
لمؤسسة عرفت بالتقليدية والصرامة والتحوط الشديد.
وفي دروب جنوبي الأردن، حيث نرى الرمل والورد والصخر، يحن إلى الجمال
وإلى روح الإبداع وخصوصية المكان. وعند تلة، تشارف الطرق المقدسة إلى الديار
النبطية جوار البتراء (التي أحببت وعشقت صخرها وجمال أفقها وأصيل غروبها) اخترت أن
ترتاح روحك الطيبة وتهدأ من نضال سبعين عاما، أحببت فيها الناس والأرض وعوالم
الثقافة والفن، ولهذا جسد حبك لأرض النبط، دوام تصوفك وتنسكك بأسرارها وخاطرها
الإبداعي الذي يغسل النفوس والأحلام.
ومع أنك - يا أيها الغالي أبا عمر - مثل النسيم عشت ومثل النسيم عايشناك،
فإن ذكرى رحيلك تحمل لنا في جزئيات ذلك النسيم أشواكاَ تنغز... وتؤلم... وتدمي!
ورغم ذلك، ها نحن نحرص على تذكرك لكي "نستمتع" بذلك النغز والألم
والإدماء من أجل أن نستعيد صورتك، صوتك، ابتسامتك، وسيرتك العطرة، ولو لجزء من
الثانية! واليوم، في ذكرى يوم ولادتك، نتذكرك بقوة... ونتألم بقوة!
وأنت، وإن مضيت، أو ذهبت، كما يحلو لك، فإنك معنا وفينا باق كما يحلو
لنا! وتماما مثل صحبتك لنا بالماضي، فإن صحبة ذكراك اليوم – أيضا - تحلو لنا!، ولن
تأفل عنا (مطلقا) سواء بحضورك أو إنسانيتك أو تواضعك أو ضحكتك المرحة المفاجئة
أيضا!
وكم من ميت… حي مثلك، وكم من أحياء بيننا… أموات!