سؤالٌ طرحه رئيس تحرير مجلة
الأتلانتيك، بنيامين شوارتز، في العام 2005، في مقالة له. وقد يكون مستغربا إعادة
طرحه في وقتٍ تبدو فيه إسرائيل قوة ضارية تتسيد السماء بطائراتها، وتستطيع على
الأرض فعل ما تريد، بفضل جيشها الذي يعدّ الأحدث تجهيزاً، والأفضل تدريباً، مع
أفضلية دعم الغرب والولايات المتحدة له. ولكن ذلك كله لن يلغي أبداً أن اليهود سوف
يصبحون في غضون خمسة عشر عاماً أقليةً في الأرض التي يحتلونها بين نهر الأردن
والبحر الأبيض المتوسط، ولن تزيد نسبتهم عن 42% من مجموع السكان في المنطقة. ويوضح
إحصاء رسمي إسرائيلي، نشرت نتائجه الأسبوع الماضي، أن عدد سكان
"إسرائيل" قد وصل إلى تسعة ملايين نسمة، 1890000 عرب، و 6697000 يهود
ونسبتهم 47،2% مقابل 20،9% للعرب. وإذا ما أضيف إلى العدد الكلي مواطني الضفة
الغربية وقطاع غزة، وهم أربعة ملايين وتسعمائة ألف، تصبح النسبة العددية شبه
متساوية مع أفضلية للفلسطينيين، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن مصادر الهجرة إلى
إسرائيل تكاد تنضب، فقد بلغ آخر عدد مُحصى 35 ألف مهاجر، مع نسب نمو سكاني بين كلا
المكونين، العربي واليهودي، فالنسبة لدى اليهود 1،4%، بينما هي لدى العرب 3،4% مع
متوسط عمر medium age
هو 35 عاما، بينما هو لدى العرب 14% (يعني حسب علماء الإحصاء القيمة العددية التي
إذا بلغها شخص في تجمع سكاني يكون العدد لمن يكبرونه مساويا لمن يصغرونه).
تؤكد هذه المقدمة الإحصائية ما ذهبت
إليه توقعات سابقة على الصعيد الديمغرافي. ولكن ماذا يعنيه ذلك كله؟ وكيف سيتم التعامل مع هذا
المعطى الديمغرافي إسرائيلياً؟ أُخذت هذه النقطة على محمل الجد في بداية العقد
الأول من القرن الواحد والعشرين، حيث ظهر توافقٌ عميقٌ داخل النخبة السياسية
والعسكرية والاستخباراتية، فحواه أن على إسرائيل أن تنسحب من جميع الأراضي المحتلة
تقريباً، أو أن تصبح عملياً دولةً للتمييز العنصري، إن لم يكن على الفور فمع مرور
الوقت، وهذه القناعة هي نفسها التي تم بموجبها بناء جدار الفصل العنصري، والذي
يعزل إسرائيل عن السكان الفلسطينيين، المتنامين عددياً والفقراء اقتصادياً. وبحسب
الجغرافي الإسرائيلي، أرنون سوفير، الذي وصف الجدار بأنه محاولةٌ يائسة لإبقاء
إسرائيل، وكان يُفترض لذلك أن يتم بالتزامن مع عقد مقايضةٍ تاريخيةٍ، كادت أن تسفر
عنها الجهود الدولية، بحيث تتنازل إسرائيل عن الأرض المحتلة، ثم تفكّك جميع
المستوطنات، في حين يتخلى الفلسطينيون عن حق العودة، ويعترفون بإسرائيل، الأمر
الذي سيبدل حلم إسرائيل الكبرى الجغرافي، ويحوّله إلى مفهوم اقتصادي، بحيث تشكل
إسرائيل منطقة جذب إقليمية على البحر الأبيض المتوسط.
ولكن لم يحصل من ذلك كله سوى بناء
الجدار، فالمستوطنات لم تهدم، بل توسعت عميقاً داخل جغرافيا الضفة الغربية، وكوّنت
جزراً معزولة، يتكدّس فيها الفلسطينيون، فلم يتحقق السلام، ولم يعزل المكون
الفلسطيني عن الإسرائيلي، بل ازداد التداخل، وتوسعت فرص الاحتكاك اليومي. وبهذا
المعنى، ووفقاً للمفاهيم السابقة، هل قرّرت إسرائيل الانتحار؟ إذ بموجب المحدّدات
الديمغرافية، اليهود ذاهبون إلى أن يكونوا أقلية، وبالتالي تصبح دولتهم، وفق
المعايير الدولية، دولة للفصل العنصري، أم هل تغيرت الاستراتيجية، وقرروا التوغل
داخل أراضي الضفة، ليضيقوا على سكّانها ليرحلوا؟ وهل سيرضخ السكان لذلك؟ والمؤكد
أن الوعي العميق للفلسطينيين يتبنّى فكرة مناهضة تماماً نزوحا آخر، والمغامرة
بحلمٍ بُذلت دونه دماء كثيرة وتضحياتٌ لا حصر لها. إذاً، المراهنة الإسرائيلية
خارج إطار تنازل فلسطيني مأمول فاشلة سلفاً.
لنذهب إلى أبعد من ذلك إذاً، ثمّة
تغيراتٌ عميقةٌ، طاولت الإقليم والعالم، فالشرق العربي أصبح مكاناً لمحاولات يائسة
للتغيير، أدت ممانعتها إلى تضعضع الكيان السياسي لبعض الدول، ما أحدث وهنا جوهريا
في الإقليم، جعل إسرائيل تتفرد بعيدةً عن كل الآخرين بميزان قوى واستقرار، لا
يتوفر في الفراغ الإقليمي الممتد والمحيط بها، بالإضافة إلى ظهور قوى إقليمية
أشعلت حالةً من الشك الوجودي لدى بعض الدول العربية، تزامن مع تغيير قناعة
الولايات المتحدة بأهمية الشرق الأوسط، وقد دفع ذلك كله المخطّطين الاستراتيجيين
الإسرائيليين، للبحث عن دور في الإقليم، يجنّبهم تقديم التنازلين الرئيسيين:
التخلي عن الأرض وتفكيك المستوطنات، فما هي السيناريوهات المقترحة؟
التطور الأهم الذي جعل إسرائيل تتجرّأ،
وتتحدّى كل القرارات الدولية، شعورها بسيولة الإقليم وهلاميته، وتراخي الولايات
المتحدة التي فقدت حماستها للدخول في معترك الصراعات الساخنة في العالم، الأمر
الذي سمح لقوى إقليمية باحثة عن دور في هذا الفراغ المتشكك بنتيجة ذلك، إيران
وتركيا. ولكن ما يهم هو التهديد الإيراني للخليج العربي، والتلويح باستخدام مضيق
هرمز وسيلةً للضغط على العالم، والولايات المتحدة خصوصاً، بسبب انسحاب الأخيرة من
الاتفاق النووي، والحصار الذي تفرضه على إيران. وقد تزامن هذا الأمر مع تراخٍ
أميركي ولأول مرة تجاه طموح إسرائيل بأن تكون جزءا من المنظومة الأمنية للخليج.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل بدأت الأخيرة بتقديم بدائل عملية، تمكّن من تصدير
النفط من دون المرور بمضيق هرمز، وباتت تطرح فكرةً جذّابة في هذا المجال، وهي
التصدير عبر البحر الأبيض المتوسط، بواسطة أنابيب ممتدّة من المنابع إلى موانئ
المتوسط. وبوجود إدارة الرئيس ترامب في واشنطن، التي تبنّت تماماً أفكار إسرائيل
هذه، بل وبدأت بمساعدتها على التخلّص من آخر التبعات القانونية والحقوقية للشعب
الفلسطيني، وهو حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وذلك بإنهاء العنوان الدولي لهذا
المفهوم، وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، حيث
قادت إدارة ترامب حملة دولية لقطع الدعم عنها لإلغائها. وبذلك تنهي، من خلال ما
سمتها الصفقة، عناصر المستقبل الفلسطيني، الأرض، العاصمة بضم القدس، وعودة اللاجئين،
والسيادة. وترافق ذلك كله مع عرض بالشراكة الإقليمية، بضمان الأمن الاقتصادي
والعسكري، بالقفز إلى الأمام فوق الالتزامات التي كان يجب أن تستحق على إسرائيل في
مقابل اعتبارها عاديةً في الإقليم.
جعلت كل هذه الأحداث إسرائيل تتملص من
شركائها التقليديين في عملية السلام (أركان مؤتمر مدريد)، فهي تلقت اعترافاً
أميركياً بضم الجولان، ومثله بشرعية المستوطنات، واعتبار القدس عاصمة لها، ولكن
التطور الأهم هو تدحرج العلاقة الأردنية الإسرائيلية إلى أدنى مستوى، مع حديثٍ
متصاعدٍ داخل إسرائيل عن وطنٍ للفلسطينيين في الأردن. وأخيرا تحدث نتنياهو عن أن
كلفة العلاقة مع الأردن أكبر بكثير من مردوداتها. وقد تزامن ذلك مع تصاعد الحديث
عن كونفدرالية محتملة. ولكن هل في ظل الحكم الأردني الحالي، أم مع حكم بديل مقترح؟
لا إجابات حاسمة على ذلك، فربما كانت تلك موجات غضب من إنهاء عمّان، أخيرا، العمل
بملحق لمعاهدة السلام، أو بنتيجة تفاؤل بأن قناعة الإقليم تغيرت تجاه إسرائيل نحو
إمكانية مد الجسور معها، وإن كان من فوق الجوار القريب، وعلى حسابه.
وهذا وهم أصاب اليمين الإسرائيلي يعيد
إلى مبتدأ الحديث هنا، وقصة القرن من عمر دولة إسرائيل، فهذا التوسع والرغبة في
التسيّد الإقليمي ومحاولة إيجاد شراكاتٍ أمنية واقتصادية قد يغري، للوهلة الأولى،
بالقول إنها ستتجاوز العمر المقترح بكثير، ولكن المنطق يقول عكس ذلك، فالإقليم في
حالة مخاضٍ سيركن، في النهاية، إلى حالة سياسية تتفق عليها مكوّنات المجتمعات،
وحالة العداء الإقليمي ستنتهي، عاجلاً أم آجلاً، وستعود المكونات الأصيلة في
المنطقة إلى جذورها، وربما بقناعاتٍ أكثر نضجاً. وستبقى إسرائيل أقلية أضاعت كل
العروض التي طرحت عليها، وحينها ينبغي أن تواجه قدرها الذي فرضته على نفسها. ولا
يُنسى أن الاتحاد السوفييتي انهار وهو في أوج قوته، بسبب انقساماته الداخلية،
وإسرائيل تنقسم عمودياً فتمنعها حالتها هذه حتى من تشكيل حكومة. وإذا كانت تتمتع
بنظام ديمقراطي قادر على استيعاب أغلب المتناقضات، إلا أن عناصر التفجير الداخلية
والخارجية فيها ستبقى قويةً وضاغطةً، بحيث تبقي السؤال المطروح سابقاً حاضراً
دوماً في الأذهان. حاولت المقالة بحيادية مناقشة بعض الاحتمالات الممكنة، ولم يتبن
الكاتب أي مفهوم يشير إلى موقفه، الذي هو ضد الاحتلال قولاً واحداً.