بقلم: م. عبدالرحمن
"محمدوليد" بدران
كنت أنوي التبرع لوجه الله تعالى عن
طريق ذلك الرجل تحديداً لشدة محبتي له، كلمات نتذكرها جيداً من شخص كان قد خصص
مبلغاً من المال للتبرع به، وقد كان معجباً بفصاحة لسان أحد الخطباء وروعة حكمته
وسعة علمه وثقافته وقد علم بأنه يخرج في أوقات معينة مع بعض الناس لتوزيع أموال
المحسنين على الفقراء والمساكين فأحب أن يتشارك الأجر معهم، بحث الرجل عن هاتف ذلك
الخطيب حتى وصل إليه ثم بادر للتحدث معه فقال له: أحببت أن أخرج معكم لمشاركة
الأجر فسأله الخطيب: وكم المبلغ الذي ستتبرع به ؟ فذكر له مبلغاً صغيراً لا يتجاوز
بضعة مئات، وعندها كانت المفاجئة، أجابه الخطيب: إعتقدنا أنك ستتبرع بمبلغ كبير ذا
قيمة، وفي النهاية هذا هو المبلغ الذي ستتبرع به، إذهب وتبرع به لوحدك !
تملكت الرجل الدهشة مما سمع خصوصاً وأن
الله عزوجل يضاعف الأجر لمن يشاء بغير حساب ويجازي بالأجر العظيم مثقال الذرة من عمل
الخير وسأل نفسه ترى كيف جمع ذلك الخطيب كل هذا العلم وهذه الحكمة مع تلك الفظاظة
الغريبة !
ومما يروى أن أحد الشباب كان يمر يوماً
فصادف رجل يطلب الصدقة منه، قال له الشاب: آسف يا أبي فإني نسيت المحفظة في البيت،
عندها بكى الرجل فخاف الشاب أن يكون قد جرح مشاعره فقال له: لا عليك سأذهب الآن
لإحضار محفظتي وأعطيك منها، لكن الرجل قال له: أنا لا أبكي لأجل المال يا بني،
وإنما لأنك قلت لي يا أبي فقد مر علي زمن طويل وأنا أتمنى سماع هذه الكلمة !
فما أروع الكلمة الطيبة عندما تكون
جواز سفر لقلوب الآخرين، وهي الحقيقة التي لم يستثنى منها أحد حتى خير البشر نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي شهد له الله تعالى بأنه على خلق عظيم وأرسله
ليتمم مكارم الأخلاق، ومع ذلك ذكره بأنه لو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من
حوله، هذه هي الفطرة السوية التي خلق الله عزوجل طبيعة البشر عليها، تحب الكلمة
الطيبة الجميلة وتحب سماعها مرة بعد مرة وتنفر من الكلمات القاسية المهينة، وعلى
من أراد التأكد من ذلك النظر لطفل سوي في سنوات عمره الأولى، وإسماعه كلمات جميلة
ليرى كيف ترتسم الإبتسامة على وجهه لا إرادياً وفي المقابل كيف يبكي بأعلى صوته
لمجرد الصراخ في وجهه وهنا يكمن فن القول والأذى.
ومما ترويه بطون الكتب أن أحد المدراء
كان يحصل على راتب مليون دولار سنوياً في مصنع للصلب وكان يقول أن سبب ذلك معرفته
كيفية التعامل مع الآخرين، وفي أحد الأيام كان يسير في مصنعه فوجد مجموعة من
الموظفين يدخنون تحت لافتة "ممنوع التدخين" فلم يصرخ في وجوههم ولم
يطردهم، فماذا فعل ؟
وقف معهم وتجاذب معهم أطراف الحديث
والضحك والإبتسامات ولم يذكر كلمة واحدة عن تدخينهم، وقبل أن يغادر أخرج مجموعة من
السجائر وأعطاهم إياها وهو يبتسم ويغمض أحد عينيه ويقول لهم: سأكون شاكراً لو دخنتم
هذه في الخارج المرة القادمة !
ترى كم بيننا من جعل غيره يكره التعامل
معه لأجل لسانه السليط والحاد ونسي أن خالقنا عزوجل فضل القول المعروف والكلمة
الطيبة حتى على الصدقة عندما يتبعها الأذى وسوء الخلق، هي حياتنا نعيشها مرة واحدة
فليتنا نعمل على إثراء لحظاتها برسم خارطة لأجمل الكلام فيها لعله يكون سبباً في
إضفاء شيئاً من الجمالية على حياتنا وحياة من حولنا سواء ونحن نعيش على هذه الأرض
أو حتى بعد مغادرتنا لها.
وقد صدق من قال: من عاش صفراً من
الأخلاق والأدب يحيا فقيراً ولو يمشي على الذهب، ما قيمة المرء إلا طيب جوهره لا
ما حواه من الأموال والحسب.
ولعلنا نذكر أحد الشباب الذي كان
متحمساً للذهاب للصلاة يوماً فانطلق بمجرد سماعه لأذان الظهر لشده حبه لأداء واجب
خالقه عزوجل، وفي طريقه وجد أحدهم فوق نخلته يلتقط الثمر، فقال له: بادر للصلاة
يارجل، فأجابه: طيب طيب، فقال له: إذهب للصلاة يا حمار ! عندها غضب الرجل وصرخ:
أنا حمار، وإنتزع فسيلة من النخلة ليضربه بها، لكن الشاب غطى وجهه وهرب قبل أن
يميز شكله الرجل، وبعدها بساعات مر الشاب وهو ذاهب لصلاة العصر بالرجل فسلم عليه
وسأله عن حاله فحمد الرجل ربه، ثم سأله الشاب: كيف الثمر هذه السنة ؟ فقال له:
الحمد لله، عندها قال له الشاب: وفقك الله ورزقك ووسع عليك ولا حرمك أجر عملك
وكذلك لأولادك، فابتسم الرجل وشكره على الدعاء وأمن عليه، فقال له الشاب: ربما
لشدة إنشغالك لم تنتبه للأذان فما رأيك أن تنزل ترتاح قليلا وتصلي ثم تعود لإكمال
عملك، حفظ الله عليك صحتك، فقال الرجل: نعم إن شاء الله، ونزل ليعانق الشاب وشكره
على أخلاقه العالية، وقال له: أما من مر بي الظهر فليتني أراه لأعلمه من الحمار !
وما أجمل أن ترافقنا الكلمة الطيبة في
حياتنا التي شبهها الخالق عزوجل بالشجرة الطيبة ذات الأصل الثابت في الأرض والفرع
الواصل للسماء والثمر الجميل الذي لا ينقطع.