بقلم: م. عبدالرحمن "محمدوليد" بدران
أرسل الخليفة العباسي إلى أبو طاهر الجنابي كتاباً يطالبه فيه باطلاق الأسرى، وإيقاف التعديات التي يقوم بها القرامطة في قتل الحجيج، وحرق المساجد، فأمر أبو طاهر بإكرام الوفد، وإطلاق الأسرى، وطلب من الوفد إبلاغ الخليفة رغبته في الاستيلاء على البصرة والأهواز في مقابل الكف عن التعرض للحجيج، وحملهم كتاباً جاء فيه وصف الخليفة المقتدر: "بقائد الأرجاس المسمى بولد العباس"، وبعد ذلك ذكر زعيم القرامطة الأسباب التي دعته إلى الاعتداء على قوافل الحجيج، معيباً على المقتدر تسمية نفسه بالمقتدر بالله، فيقول: أي جيش صدمك فاقتدرت عليه، أم أي عدو ساقك فابتدرت إليه؟ وتضمنت الرسالة تبريرات أبي طاهر لأعماله على شكل مناظرة، فيقول: «فأما ما ذكرت من قتل الحجيج وإضراب الأمصار، وإحراق المساجد فوالله ما فعلت إلا بعد وضوح الحجة كإيضاح الشمس، وإدعاء طوائف منهم أنهم أبرار، ومعايشتي فيهم أخلاق الفجار، فحكمت عليهم بحكم الله (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فأخبرني أيها المحتج لهم والمناظر عنهم، في أي آية من كتاب الله أو أي خبر عن رسول الله إباحة شرب الخمور، وضرب الطنبور، وعزف القيان، ومعانقة الغلمان، وقد جمعوا الأموال من ظهور الأيتام، وحووها من وجوه الحرام»، هكذا جاء الرد على الخليفة ممن يجدر بنا معرفة أنه قتل ما يزيد عن 30 ألف حاج في الثامن من ذي الحجة من العام 317 هـ مردداً "أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا"، ومنادياً أصحابه "أجهزوا على الكفار وعبدة الأحجار، ودكوا أركان الكعبة، إقلعوا الحجر الأسود"، ولو تمعنا النظر في كلماته في تبرير أفعاله في ذلك الزمان قبل أكثر من ألف عام لوجدناها المبررات ذاتها التي يستخدمها كل المتطرفون والارهابيون والمجرمون على مر الزمان، فهم لا يرون من أمامهم سوى كفاراً فسقة مجرمين لأنهم لم يتبعوا معتقدهم وفكرهم، وهي الحجة ذاتها التي كانت السبب وراء كل المجازر والمذابح على مر التاريخ.
فلكم أن تتخيلوا مثلاً أن: "إعتقدت أنه لم يخشع في صلاته" كانت إجابة أحد الأشخاص بعد قيامه بضرب إمام جامع وكسر أسنانه قبل أيام عندما سأل عن السبب !!!
ترى كم نقاش دخلناه مع غيرنا وإنتهى بجملة "يا أخي ما يفهمك أنت ..!"، وكم نقاش دخلناه مع أحد أفراد عائلتنا وإنتهى بخصام إستمر أياماً، فهذا يمنح نفسه الحق في شتمك ولعنك فقط لأنك لم تتوافق مع فكرته، وآخر له الحق في ضربك وتكسير رأسك وأسنانك إذا أنت لم تقر بصواب كل كلمة يتفوه بها، وكأن الله لم يخلق لكل إنسان عقلاً ليكون له الحق في التفكر فيه والاختلاف فيه عن غيره، والأدهى أن يجتهد بعض أئمة الدين في الدعاء على كل من يختلف عنهم من الطوائف والأديان، فقط لأنهم إختلفوا عنهم، وكأن الله أجاز قتل ولعن وشتم كل من يختلفون عنك، أو أنه أجاز للمسلم الزواج من المسيحية أو اليهودية وفرض في الوقت ذاته الدعاء عليها وشتمها ولعنها منه ومن أبنائه وهي زوجته وأم أبنائه !!
وبرغم أنك ترى في كل الأديان السماوية وجوب الأمر باحترام الاختلاف وقبوله والتعامل معه بكل رقي وقبول، ترى من يوغل في قتل وظلم غيره بحجة الدفاع المقدس عن أوامر الله ذلك برغم أن الله لم يجعل أحدا وكيلاً له على هذه الارض !
فنقرأ في كتاب الله عزوجل في القرآن الكريم: {{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}} سورة الحجرات الآية 13، فخلق الله الناس مختلفين إثنياً وإجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ولكنهم في الأساس "أمة واحدة" كما وقوله تعالى في الآية 19 من سورة يونس: {{وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا}}، أي أن إختلافاتهم على تعددها لا تلغي وحدتهم الانسانية، هذه الوحدة القائمة على الاختلاف، وليس على التماثل والتطابق، ذلك أن الاختلاف آية من آيات عظمة الله، ومظهر من مظاهر روعة إبداعه في الخلق، فيقول عزوجل: {{ومن آياته خلق السماوات والأرض وإختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}} سورة الروم الآية 22، ويقول تعالى: {{لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات}} الآية 148 من سورة البقرة، وقوله عز من قائل في الآية 145 من سورة البقرة في إشارة واضحة إلى تعدد التوجهات: {{وما بعضهم بتابع قبلة بعض}}، ذلك أنه مع إختلاف الألسن والألوان كان من طبيعة رحمة الله إختلاف الشرائع والمناهج، وهو ما أكده الله عزوجل في كتابه الكريم بقوله: {{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون}}، سورة المائدة الآية 48، وفي قوله تعالى: {{الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون}} سورة الحج الآية 69، وقوله عزوجل: {{لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}} سورة هود الآيات 118،119.
وقد حاور النبي عليه الصلاة والسلام نصارى نجران في بيته في المدينة المنورة وأحسن وفادتهم، وعندما حان وقت صلاتهم لم يجد النبي أي غضاضة في دعوتهم كما تذكر روايات ثقة إلى أداء صلاتهم، ذلك أن العقيدة في الاسلام تستقر بالفكر إختياراً ولا تلصق باللسان قهراً وإجباراً، فتقرأ في القرآن الكريم يقول {{لا إكراه في الدين}} سورة البقرة الآية 256، والـ"لا" هنا نافية وليست ناهية، أي أنها لا تعني لا تكرهوا الناس في الدين، ولكنها تعني أن الدين لا يكتمل ولا يكون أساساً بالاكراه.
واليوم وقذائف القتل والدم أصبحت تغشى أنوفنا، ولأن قيمتنا الانسانية تبقى نابعة من أساس قيمنا أصبحنا في أمس الحاجة لاعادة حساباتنا نحو تعزيز كل ما فيه الخير لنا ولغيرنا من البشر، بإحترام إختلافنا والمحافظة عليه حفاظاً على قيمنا الانسانية الراقية، لعل قذائف الورد بداخلنا تنفجر محبة وإخاء وإحتراماً وتعايشاً بدلاً من قذائف الموت والدمار لتكون سبباً في مد أيدينا لبعضنا البعض ولإيقاظ "الانسان" المحب لمسح كل دمعة حزينة ورسم إبتسامة جميلة على كل وجه بداخل كل منا.