بقلم: عدنان متروك شديفات
يمر الإنسان في حياته بعدة مراحل
ومواقف وأحداث منذ أن يكون طفلاً صغيراً إلى حين أن يكبر، ولكن هناك منها ما يبقى
مختزن في الذاكرة، ويتم استعادتها كلما هم بك موقف أو حدث، في بدايات الثمانينيات
من القرن الماضي كنا لا زلنا يافعين صغار، وكانت سنوات النشء الأولى كانت سيرة
المغفور له بأذن الله المرحوم الشيخ الفارس عواد السطام الفايز رحمه الله أبو ملوح
تملا الأردن محبةً ومهابة وهو الذي نشأ وترعرع على مأثر السيادة والشرف، وكان حديث
الجلسات لما له من صولات وبطولات نقشها على جدار الزمن، فهو يمتلك صمتاً وهدوءاً
يخيم على كل المواقف وإذا ما اشتد خطب تجده صاحب الموقف والسيف والكلمة.. عندما
كانت البيوت عامرة بالدفء والمحبة وكان لسيجارة عارف أبوسند نكهة في الحب والوجد
وفيصل وفواز رفيق الوالد الشيخ في دروس البطولة والتضحيات والإباء، وكان للمرحوم
سمات وخصال فهو الفارس في الميدان والحليم عند الغضب والحنون على الأحفاد والصبية
وجدائل الاردنيات، والخيمة التي يأوي أليها الفقراء والمستضعفون والفناء الذي
يجدون فيه ضالتهم بمحبة ولكل الباحثين عن الأمان ودروس الرجولة.
تلفي على عواد ياعز ملفاه خطه طويل ونايفن بالفعايل
ابيوتكم مثل القصور المبناه ظلن لنا عند موهجات القوايل
ثمة بعض الأحداث والقصص والحكايا
نتذكرها ويتوقف البوح الآن معها ،أذ لم يعد هناك راوي يروي لنا وعندما تتوقف
الأقلام عن الكتابة يصبح مصير حبرها الجفاف ،وفارس بني صخر في عصره أخو جواهر الذي
رد العمارات عن بني صخر في العراق، عندما تخبرك بعض الأحداث عن مواقف الرجال فأنه
يخطر أليّ تذكر الشيخ ابو ملوح رحمه الله اصغر أبناء سطام المولود عام 1886م وفي
كل يوم حكاية، كانت أم العمد على موعد مع الرحيل فأختار الباري عزوجل المغفور له
ليكون لجواره ورحل راضيا مرضيا يكفيه وأولاده وأحفاده ونسله أن الرحيل جاء وهو في
قمة رجولته عاش فيها ومرعبر قرنين من الزمن بأهوالها وبطولاتها وعندما تعب المشوار
لم يكن التعب ضيفاً ثقيلاً على الشيخ أبوملوح بل رحل وهو يقف على قدميه وفي كامل
قواه العقلية لا بل رفض أن يأخذ العلاج أو يذهب إلى الطبيب رحل وهو رجل شجاع مشى
الى الموت ولم ينتظره، نعم رحل (ذعارالخيل ) وكانت لحظة وداع ليس مثلها وقت، حمله
فيصل وفواز وعارف على الأكتاف فطاف الجثمان المسجى في فناء المنزل وودع ام العمد
على أصوات حداء الرجال ونحيب البنات والأحفاد.. 108 أعوام مرت لم تسجل للأسف ولم
تدون فيها البطولات وكل موقف فيها وكل بطولة تحتاج إلى مئات المجلدات في الدروس
والعبر.. إذ ليس معقولاً أن لا تتيه الحروف برحيله وترحل معه دروس الرجولة
والفراسة معاً فهو بعض من ملامحنا وبدوياً يعشق السيف والوطن والكلمة، وعندما يكون
الحديث عن قناعات فأنني مطالب أن أصب قناعاتي على الورق وبعيداً عن التزلف وبحكم
الدراسة لشخصه رحمه الله أكتب اليوم عن والى صاحب الذكرى والوجه البدوي الملثم
الممتلئ الذي يفيض حباً ورجولة بأهل أم العمد وعشيرته الكبرى الوطن الأردني فهو لم
يكن شخصاً عادياً، بل يتعدى ذلك حدود العشيرة والقبيلة والمملكة إلى مستوى الجزيرة
العربية وبلاد الشام ، حيث لم يغب عن أية مواقف أو مناسبات اجتماعية أو وطنية أو
رسمية في الأردن يتجاوز عن الكثير لأجل الصفح وعيون سيدنا والأهل والعشيرة
والقبيلة ويعطي دروساً في الصفح وهل أكثر ممن يسامح ببنيه، وبيته كان مزاراً لكل
الباحثين عن الأمان والمحبة وقصر ذات اليد وكل أولئك اللذين جاءو بذات حاجة، كان
رحمه الله ( فكاك نشب) دائم الحديث عن احترام الناس بعضهم لبعض فكان معلماً في
الوطنية، ومما زاد في ذلك ما تسمعه عنه ممن عاصروه ولحقو بجيله من الكبار في دروس
الشجاعة والكرم والطيب والفراسة ،ولعل ما سمعت وما يقال عنه وبحقه فقد كان راعي حظ
وخبيراً في إدارة الأزمات، يمقت الصغائر ويذلل الكبائر للوصول بالجميع إلى حلول
مرضية لا يهادن ولا يجامل، ومحبة الوطن وأبناءه تسمو فوق كل اعتبار فكان رحمه الله
بيضة القبان في الوطن وفي الخارج وله حضور يطغى على كل الكلام ولا يتحدث الا بعد
أن يسمع وجهات نظر الجميع فان تكلم كان له القول الفصل وعندها تغيب كل لغه، فهو
شخص لم ينصّب نفسه شيخاً ووجهاً معروفاً بل هي نتيجة لمواقفة وشجاعته المعهودة الا
يكفي انه ربط القائم قام الانجليزي في إسطبل الخيل ولأنه لم يرد سائلاً طيلة حياته فأن قصده صاحب
حاجة لا يسأله من أنت ؟ أو من أين أنت ؟ إلا بعد أن يلبي طلبه.. لله درك يا أبا
ملوح فقد كرست البداوة بأصولها.
قبل الوداع الأخير بأيام التف من حولة البنين
والأحفاد ولبست الشمخ وتلصمت الرجال وسمعوا منه أخر حكايات الزمن الجميل يوصّيهم
ببعض خيراً، وجاء اليوم الذي كان موعداً لطلب صاحب الامانه لأمانته.. فرفعت المساجد
أسمه إلى السماء وثقلت العيون بالدموع.. فكانت هيبة الوداع أكبر وكان حجم العزاء
فيك بحجم الوطن وبحجم ما تركت فينا وبيننا من دروس في البطولات وتربيه صالحة
لأبنائك وبناتك الأعزاء..
واليوم نستذكر المرحوم أبو ملوح وهو
ليس بحاجة إلى أية أوسمة أو ألقاب أو فبركات إعلامية فهو نقش أسمه على جدار
الزمن وللإنصاف أقول..
أيها الشيخ البطل أنت لست مجرد عابر في
زمن العابرين أو مسمى نطلقه عليك (ذعار
الخيل ) إنما أنت فارس وبطل بمعنى حقيقي فأنت من دافع عن هذا الحمى حينما اشتركت
في قتال الأتراك إلى جانب فرسان بني صخر اللذين انضموا إلى قوات الثورة العربية
الكبرى في عام 1916م، وأنت من انتصر في معركة (اللا خوين ) عام 1942م، عندما داهمت
الحركة الوهابية المملكة السعودية وأبعدها الملك عبد العزيز إلى الأردن كان القائد
الشيخ أبا ملوح الفارس الأول ورجاله لهم بالمرصاد فكانت ام العمد هي مقبرتهم لأن
بوصلتهم أخطأت العنوان ولم تسعفهم، كما لم تسعفك من قبل ميادين الأقلام المأجورة
على البوح باسمك فتم التشويه عليك وللان أبناؤك يدفعون الثمن كما من قبل، ولكن
أنصفك المغفور له الملك المؤسس عبدالله الأول عندما قال فيك بان لو كان لدي 200
فارس بقوة عواد السطام اطمئن على الأردن أكثر أن تكون بخير، الموقف الأخر في عام
1948 م، حينما رفضت التهجير القسري للفلسطينيين وتوطين اليهود وكنت في طليعة
الوطنيين اللذين رفضوا تقسيم البلاد العربية، فصاحب البارودة والسيف جسد الموقف
القومي العروبي من قبل ولا زالت جدران وحارات وشوارع القدس واللد والرملة في
فلسطين شاهد عيان على بطولاتك وتضحياتك وان زور التأريخ فأن الاصيل لا يكذب وطنه، وأن البيوت في أم العمد ترسم عليها أجمل حكايات
الرجولة والعمر واللوحات، وحينما خطت أرجلنا على الطرقات ونحن لا زلنا يافعين
عندما كان سيفك وابتسامتك كعنقود عنب في تموز يحمل الكثير من الضحكات وأن ألمت به
بعض الخطوب كنت أخر الرجاء يا سيد الفراق واللوعة.. هل تسمح لي ؟؟ بعد مرور أكثر
من عقدين ونصف على الفراق وبعد أن تاهت الخطوات أن أقول لك بأنك لا زلت كما أنت
شفيف الروح والحاضر الغائب.. هل تعلم يا رفيق درب الأحرار والوطنيين والخطى
المتعبة أن طلتك البهية على أبواب أم العمد لا زالت تبرح مكانها وأن صوتك الممتد
بمحبه على كافة بيوت بني صخر لا زال ينثر الطيوب والرياحين.. بكت الرجال وأنت لم
ترى مآقي العيون وقد ذبلت من شدة البكاء بأسهم في ذلك هو مواقفكم معهم وبطولاتكم
ولم تترك أي منهم إلا وكان لك معه صوله تسجل في سجل الذهب.
يا رفيق وصديق العز والسيف والبارود
والحروف المتعبة.. تمهل قليلاً فما زال فيك الكثير من البطولة لترسله إلى حفيدك
سند وأبناء أعمامه وكل شبان بني صخر والأردن، وما زال الصغار ينظرون اليك نظرة
تختلف عن باقي النظرات البريئة التي علمتهم معنى الحياة.. وقد ارتبط أسمك
بالبطولات والسيف وقد استلهمت الخطى على الطريق حيث الجدائل الصخرية وأنت سيد الحب
والحزن والتعب وأنت من تجيد فنون الكلام في المجالس والقتال في ساحات الوغى ولا
يرعبك مبضع الجراح..
لقد كان أبا ملوح اخو جواهر ذعار الخيل
رحمه الله سنديانه في العطاء والبذل في سبيل الوطن وواسط بيت أذا ما تم ألاستعانة
به في أمر ما، ورغم ما تعرض له من إبعاد عن الحياة السياسية الأردنية إلا أن أبا
ملوح بقي قابضاً على جمر وطنيته وعروبته، عندما يدخل المجالس كان البعض يهرب منها
صمته يغني عن رحلة عمرها تجاوز قرن ونيف من الزمن وعمر الدولة التي ولد قبل
تأسيسها، ورحلته تشبه الشتاء والصيف، تلك هي فضاعة رحيل من نحبهم..
علمني فقدك أنه برحيل الفرسان ترحل
معهم بعض من ملامحنا الجميلة والبطولات فلا نموت وإنما نكون قيد الممات، لقد جّل
الخطب وفدح المصاب وتركت في نفوس الناس فراغاً لم يعهدوه من قبل فقد كنت تعظم
المجالس بحضورك ونحن يعظم أمام أعيننا المصاب الجلل بفقدك إذ تركت رسالة ومشوار
طويل لن ينتهي فهو لا زال يلتمس خطاك.
يحق لأحفادك وابناؤك في لحظة الوجد أن
نقول سلام على رجل بحجم الوطن وسلام على فارس
يفيض بحراً في وجه كل الكآبات.. سلام على مرقدك الطاهر وعلى سيفك وروحك
والبارود.. وسند حفيدك يجّود ويقرأ ما تلي من آيات في كل صباح ومساء.. ولك من بني
صخر بعد دبر كل صلاة مجمل الدعوات لأنك من الأوائل اللذين ثبتوا أركان القبيلة، وفي هذا المقام اسمح لي أن أقول للأخ عارف
ولإخوانه ما قاله الباري عزوجل لام موسى عليه السلام لا تخاف ولاتحزن فهو في عليين
أن شاء الله.
أيها الساكن روحه في السماء وداعاً.. طبت حياً
وميتاً يا أبا ملوح.. سلاماً عليك يا ذعار الخيل وعلى روحك وأنت مع الذين إذا عاهدوا
لم يغدروا، وإذا أعطوا ميثاقاً لم ينقضوا، سلاماً عليك يا صاحب القلب الواحد
والوجه الواحد والموقف الواحد والوطن الواحد..
إلى رحمة الله في عليين..