بقلم: د. الليث مقابلة
الجُمعة الموافق للتاسِعِ عَشر من تموز الحالي ، كان مَشفى جرش الحكومي على مَوعدٍ صَعْبٍ وفاجِعَةٍ انسانيةٍ مُؤلمةٍ تَجلَت في تَلقي طوارئها لمصابي حادثِ سيرٍ مرَوِعٍ تَسربلوا اصاباتٍ بالغةٍ وافترشوا دماءهم البريئة ، اثر حادثِ اصطدامِ مَركَبتي نقلٍ لزوارٍ ولِجوها آمنين .
كان يوماً عصيباً ، أكتُبُ فيهِ وقد فارَقتهُ الآن ولاتزالُ دهشتهُ تطوقني وأظنها باقيه ، فَحَجمُ الألمِ فيه من جهةٍ ، وحَجمُ البذلِ من أُخرى أصعبُ من أن يُنتَسيا أو تزولُ ذاكرَتُهُما .
كانَ يوماً عَصِياً الا على سَواعدِ النشامى ؛ فَقَد ذُللَ بمشيئة اللهِ بِهِم ، كانوا كالبنيانِ المرصوصِ لم تَسطَعِ الشِدةُ فيهِ أن تنتَصر بل انتصَرت اراداتُهُم القويةُ ونواياهم الصادقةُ فاستجابت لهم عناية اللهِ ولم يخسروا روحاً من تلكَ الأجسادُ المتضمخةُ دماءً رُغمَ عِظَمِ الاصاباتِ وكَمِ مُصابيها .
كانَ يوماً عصيباً ؛ مع بواكيرهِ استقبلت طوارئ جراحة مشفى جرش سياراتِ دفاعٍ مَدني أقلَت تسعةَ مُصابينَ بذاتِ اللحظةِ وبذاتِ الفاجِعة ، لتتلقفُهم سواعِدُ النشامى القليلةِ عدداً العظيمةِ بأساً ليضربوا مرةً أُخرى أبهى مشاهِدِ العزِ والعنفوان في تكاتفهم واستبسالهم رغم قفرة الامكانيات .
كانَ يوماً عَصِياً ؛ تراوح تصنيفُ الحالاتِ التسعةِ بينَ متوسطةٍ وخطيرةٍ ومهددةٍ للحياة تطلبت النقل فوراً دون سابق انذار الى غرفة العمليات .
طبيبا جراحة : اختصاصي ومقيم ،،،، لكن ثَمَةَ للتوفيقِ مُعادَلَةٌ أخرى ، تَجلَت أبعادُها في لُغَةِ الجَمعِ لا حُروف الفردية ؛ فكان البَذْلُ نَصيبَ الجميعِ بل وطالَ من قطع يوم راحتهِ الوحيدِ - من أبناء كادر جرش - ليلحق رِفاقَ الكَدحِ مسطراً معهم أنقى العزِ في محاولةِ انقاذِ أرواحٍ أُدخِلت أجسادُ أصحابها بأرقامٍ حينها لا بأسمائهم لغيابِ مُعَرِفيهم من ذويهم .
كانَ يوماً عصيباً ؛ وُضِعَ ثلاثَةُ أشخاصٍ من المصابين وفور الكشف في الطوارئ على اجهزة التنفس الاصطناعي ، فقد كانت حالاتهم الطبية سيئة للغاية جامعةً بين النزيف الدماغي والاصابات البالغة في التجويف الصدري والبطني وكان مصابوها بحالة فقدان وعي ونزيف ظاهري وباطني مُهَدد للحياة ، ووزعت الحالات الأخرى بين ما استدعى أمر غرفة العمليات الفوري او النقل الى العناية الحثيثة فقسم الجراحة ، وكان الجمعُ الطبي المُقِلُ عدداً من أطباء وممرضين وفنيين وعمال ، كثيرَ عطاءٍ فبارَكَهُ الله .
كانَ يوماً عصياً ؛ ليقطعَ فيهِ مَرَةً أخرى د. صادق العتوم - مدير مشفى جرش - يوم اجازَتهِ فَورَ تلقي النبأ متوجهاً الى عرينهِ منغمساً مع كوادرهٍ لا تفرقه عن أي منهم يؤدي مثله ، خلافَ ما اعتدتُهم من مدراء حضروا بياقات اعناقهم مكتفين بحضورهم ، كان تارةً يجري اتصالاته مع مدراء المشفيات المدنية والعسكرية طالباً الفزعةَ لكادره ومصابيه ، وتارةً طبيبا معالجاً مقدما الواجب وتارةً مباغتاً ايانا لغرفة العمليات سائلاً عن المريضِ محمساً ، ومُحْضِراً لنا وَحدَةَ الدمِ الرابعة مطمئنا ايانا ان باقي وحدات الدم المطلوبةقد تمَ تأمينها و جُلِبَت .
كانَ يَوماً عصيباً ، وللأمانةِ أقول : لم يسبق لي أن عِشتُ صِنوَه ، فَحَجمُ الألمِ والتَعَبِ المُضمَخِ فيهِ لم يُدرِكهُ الا من أدركه ، وللأمانةِ أقول : لم يسبق لي في سني الجراحة السبع المنصرمة أن أدمى ذاكرتي مشهدٌ كمشهد ابنتيها ( ذواتا الأربع سنين و السنتين ) وقد أدخلت أمهما غيرمُدرِكةٍ وحدة العناية الحثيثةِ اثر كسور متعاظمة في الراس والوجه والحوض واستسقاء هوائي رئوي ، وقد أدخلت كلتا قمريها قسم الجراحة اثر كسور متفرقة في الاطراف وجروح قطعية في الرأس ....وهنا للأمانة أقول : " يا اخوان ..السُرعه هلاااااااك سوقوا عمهلكوااااا " .
كانَ يوماً عصيباً ، حقَ لهُ أن يؤرخَ في حنايا الذاكرةِ عزاً واعتزازاً برجالٍ صدقوا النوايا والعمل فأكرمهم الله أن كانوا مباضِعَ سلامةٍ وضماد جرح .
كادر مشفى جرش ...مرةً أخرى : عظيمَ تقديري .
*هذا ما كتبه أخصائي الجراحة الليث مقابله واضعا يده على ما تسببه حوادث السير من مآسي قل نظيرها ومشيرا إلى حجم الجهد الذي نبذله في مستشفى جرش في التعامل مع هذه الحوادث وتكرارها الكبير للأسف.