بقلم: د. عادل محمد عايش الأسطل
السّامر والدِّحيّة، هما مُرادفين لمعنى واحد، باعتبارهما يُمثلان أحد الطقوس الاحتفالية العارمة، والتي عادةً ما تُقام للأفراح والمناسبات السعيدة، لدى قبائل البادية بخاصة، وأهل الرّيف بشكلٍ عام، بسبب أنها تُعدّ من تقاليدهم وموروثاتهم الطبيعية الراسخة، والتي تناقلها أفرادها منذ الأزل، عن أسلافهم (آباءً وأجدادً)، ولا تُقام فعالياتها إلاّ في ساعات الليل، إذ لا رونق لها في أي من أجزاء النهار، لا انعقاداً ولا استماعاً أيضاً، وتتركز بين بدو فلسطين وخاصةً بدو النقب، وبدو المملكة الأردنية، وبدو شمال سيناء المصرية أيضاً، وقد تكون معروفة لدى بدوٍ أخرين في أنحاء أخرى من العالم العربي.
السّامر في اللغة بتشديد السّين وكسر الميم، هو من السّمر والمُسامرة، وأمّا الدِّحيّة، بتشديد الدال وكسرها، فقد يكون مصدرها الأشياء المُفرحة وكل ما ينشأ عنها، وترتكز مع الشعور بوجود اختلافات بسيطة من قبيلة إلى أخرى، والتي تتعلق بعادات جزئية خاصة، على إقامة صفٍ طويلٍ من الرجال والولدان، وظيفتهم التصفيق على صيغة مُتعارفة، يُرافقه تمايلاً بالأجسام على نمطٍ واحدٍ تقريباً.
وأحياناً تفرض بعض المقامات، وظيفة الترديد خلف المنشدين، الذين يُعهد إليهم الإنشاد على اختلافه، وسواء كان عن قصصٍ معلومة، أو كان شعراً أو ارتجالاً، والذي عادة ما يكون واقعاً تحت سيطرة عفويّة، مُفعمة بالمودّة وطياب النفس والخاطر، وخالية من التكلف والمبالغة، خاصة وأن هذه الطقوس تعتمد على المبادلة بين أعضاء القبائل والرّد بالمثل، باعتبارها فرضاً أدبيّاً وأخلاقياً عليهم، وترتيباً على ما من شأنه تعزيز مناهج حياتهم.
يمكن القول بعد ما سبق، بأنه لا حرج على أحدٍ كان، الاعتراف بأن هذه الطقوس-على بساطتها-، تُمثّل رأس الثقافات البدويّة وأقربها إلى تفوسهم، خاصةً وأنها تتجاوز معاني السّمر والتعبير عن الفرح، باعتبارها تراثاً فطرياً شامخاً، يتجلّى بمناقب لا تُحصى، وسواء بربطهِ بين القبائل البدويّة، أو بتبيان الآيات الفخمة، والتي تدلّ على صفات (الانضباط، التماسك، المؤازرة، العون والمساعدة)، وضرورة التحلّي بها، أو تخليداً للأصالة العربيّة الرائدة، وما كان انتشارها بين أهل المدينة والحضر خلال العهود القريبة الفائتة، إلاّ لكونها تراثيّة ذات جماليّة نادرة، ولا مُنافس لها أو حاجراً عليها.
لقد تعرضت مثل هذه التراثات الاحتفالية، لبعضٍ من الانتقادات، بسبب التدافع-أحياناً- بين المنشدين بما يتجاوز حدود الفرح والمناسبة، وصولاً إلى القيام بهجو بعضهم البعض، بعد أن كان القصد هو التفكّه وتعظيم درجات السعادة، ولكن لم يجرؤ أحداً على أن ينسب إلى أهلها ومُريديها، بأنها للصخب والغوغائية وحسب، أو تجريمهم بأمور تتصل بمُخالفة الدين والمحرمات الحياتيّة المتوارثة
.
جرت العادة، كـ- أساس-، الابتداء بتمجيد الله تعالى وتقديس كتبه، وبالثناء على أنبيائه وتصديق سُننهم، وبالحضّ على الإيمان بهم، وبالتُحذّير من مخالفة أوامرهم، وذلك قبل الفياض بالغيرة على الحياء والشرف وتعظيم مقدار الشهامة والكرم، وقبل الانفجار بالوطنيّة والروح القوميّة، والتغني بأمجاد العرب، والتذكير بعزّتهم وأصالة جذورهم، والتي تدفع باتجاه مكافحة التعدّي والاستعمار.
لم تكن الدِّحيّة في يومٍ من الأيام، في حاجةٍ إلى أي انتقاد أو ملاحظة، فحينما نرى انتقادٍ ما، ومن أي أشخاصٍ ومهما علت مراتبهم، فإنه لا يمكننا أن نفهم لماذا ينبرون لانتقادها أو مهاجمتها أحياناً، وقد عبّرت بشكلٍ لا جدال فيه، عن أنها من أعظم صور التراث العربي، وفي ذات الوقت نراهم ينأون بأنفسهم عن انتقاد وتحريم أعمالاً شائنة، وهي أمام أعينهم وبين أيديهم، وتهدف صراحة إلى مقاتلة الدين ونسف الوطنيّة، والتغطية على الأصول الواجبة، وكافة أنماط القيم الأدبيّة والأخلاقيّة المتبعة.
وإذا كان صحيحاً، بأن بعض كلمات أنشوداتها غير واضحة أو مفهومة، فإن ذلك لا يُعدُّ مُسوّغاً مُعتبراً، للنيل من قيمتها ومكانتها، ولا ترجع قلّة الفهم وعدم الوضوح، إلاّ لسبب العفويّة المواكِبة للإنشاد، أو لعدم الإلمام باللهجة البدويّة، التي تتميز عن غيرها من اللهجات واللكنات العربية والمحلية، بحيث لا تُحتسب ضدها عيوباً، ولا تُوجِبُ إزاءها حُرمةً بأي حال، وعلى المنتقدين والكارهين مُراجعة حساباتهم.