بعيداً عن رأينا المعلن في ضرورة وجود فريقاً وزارياً متجانساً ومؤهلاً لقيادة المرحلة في المجالين السياسي، والاقتصادي، ورغم إدراكنا لحالة الهلع الصامت، والارتباك الكامن، والقفز العشوائي في القرارات، والزيارات التي تعتري عدداً ليس بقليل من الفريق الوزاري، إلا أن الرئيس قد جاء إلى الدوار الرابع متحصناً بسيرة نقية، وسريرة نظيفة، وتاريخ نزيه مشبع باحترام الذات، وسيادة القانون؛ تاريخ كان الأرضية اللازمة لاتخاذ قرارات وطنية، وشجاعة، وإن كانت لا تزال غير كافية لمحاربة الفساد، والفاسدين.
وعلى اعتبار أني من المتابعين لملف النزاهة، ومكافحة الفساد وكنت ناقداً حاداً لممارسات دولة الملقي في التعاطي مع ملف الفساد في قطاعات مهمة تبين مع الوقت خطورة ما كنت أشير إليه في الجمارك، والبلديات، والصحة، والأشغال والمنطقة الاقتصادية، وغيرها، فان الحالة الوطنية ما زالت تشهد غضباً شعبياً عارماً؛ لا يمكن ترميمه بقرار هنا او تصريح هناك، ولا يكفي فيه ان تطل علينا الناطق الرسمي بتصريح غير مقبول بان الحكومة اوفت بوعدها، وهو تصريح يتضمن عدم ادراك لوعي الناس، وفهم أوجاعهم.
أما الرئيس الرزاز الذي ورث تركة ثقيلة من سابقيه فقد حاول أن يفعل شيئاً، فأنجز بعض الشيء، ولكن الجهد الأهم ما زال يراوح مكانه، فالإنجاز لا يكون بتحويل قضية، أو قضايا؛ وإنما بثورة تشريعية، وإعلان حالة الطوارئ في السياسات، والقرارات، وتقييم الأشخاص والمواقع.
بحدود علمي حاول الرئيس إجراء تعديلاً جذرياً على قانوني الكسب غير المشروع، والنزاهة، ومكافحة الفساد، وقد نجح في تمرير الأول بتحسينات طفيفة لا تذكر، وما زال الآخر يراوح مكانه في أروقة اللجنة القانونية في مجلس النواب، واحال المخالفات الواردة في تقرير ديوان المحاسبة، وإن كنت أثق بأن الرئيس قد امتلك ناصية القرار في اختيار وزرائه، ولم يوفق في نصفهم على الأقل ، فهل يمارس دوراً وطنياً في اعادة انتاج المؤسسات الرقابية وفق أسس مهنية راسخة لا تنحاز الا للحقيقة والمصلحة الوطنية العليا، وهل يحتمل الظرف الوطني المجاملة، وقد أضحينا على حافة القلق الأكيد والغضب العنيد.
الرئيس نجح - من خلال المؤسسات الوطنية - في جلب مطلوباً مهماً في إطار القناعة الشعبية، ولكني ما زلت أقول إن محاكمة المتهم أمام قاضيه الطبيعي في القضاء المدني هو واجب يرتبط بمفهوم دولة المؤسسات، والقانون وليس خياراً للحكومة، سيّما وأن تتبع الأموال المتحصلة من الفساد تتطلب أحكاماً قضائية صادرة من محاكم مدنية، وليس من محاكم خاصة تجاوزها الزمن، وسلوك المجتمعات المدنية المتحضرة.
عندما اختصر الحكومة في شخص الرئيس؛ يكون السبب إدراكي للنهج التقليدي لأغلب الوزراء، وتبعثرهم بين اللامبالاة، والاختباء حول الممارسات التقليدية للوزراء، ولكن الرئيس الذي يريد أن يسجل علامة فارقة في آداء الرؤساء عليه إدراك أن مهمة كبح جماع الفساد يتطلب نهضة وطنية شاملة في السياسات، والتشريعات والقرارات، وإعادة بناء المؤسسات الرقابية وفق معطيات الأمل الوطني، ومقتضيات المسؤولية الدستورية.
الرئيس الذي خسر فرصة تاريخية في تعديل حكومي موسع يعطي للحكومة بريقاً سياسياً، ووطنياً، ويعيد الأمل لنواياه، وتوجهاته؛ عليه أن يدافع عن قناعته الوطنية في تعزيز النزاهة بقرارات وسياسات مقنعة وجذرية، بل عليه ان يحفر الصخر ويحتمل الشوك لتطبيق خطة وطنية فاعلة لتعزيز النزاهة، وتجفيف منابع الفساد في الفقر والبطالة والسياسة؛ فالواقع الوطني لم يعد يحتمل مزيداً من عمليات التجميل التي لا تزيد وجه الأداء العام الا تشوهاً، والبهاء الوطني الا شحوباً، وللحديث بقية....!!