تقلقني المحاولات المستمرة والمتعمدة من قبل السلطة التنفيذية من جهة، والقطاع المدني والإعلام من جهة أخرى، لشيطنة مؤسسة مجلس النواب، ومحاولة اظهارها بمظهر المؤسسة العاجزة عن إحداث أي تأثير يحقق قبول المواطنين سواء في عملية التشريع أو في الرقابة، وأن المنقذين الوحيدين هما الديوان الملكي والحكومة فقط، بيد أننا طوال السنين الماضية لمسنا ما هو عكس ذلك تماماً، فجميع القرارات والمقترحات التي أثرت سلباً على معيشة المواطن الأردني ورضاه عن الوضع العام كان مصدرها الحكومات المتعاقبة التي تعمل لوحدها وتفرض رغبتها في كل ما يتعلق بعمل مؤسسات الدولة، وتضغط بكل الوسائل المتاحة بيدها (وبيدها كل شيء تقريباً) لتمرير ارادتها وبرنامجها، فعلى سبيل المثال، النائب الذي حصل على مقعده من أصوات دائرة انتخابية محددة بمساحة المحافظة، هو مجبر على تقديم الخدمات لأهل هذه المحافظة، ليضمن فوزه بأصواتهم للدورة الانتخابية التي تليها، والخدمات على اختلاف اشكالها من خدمات صحية وتشغيلية وادارية هي سلطة بيد الوزارات، حيث يترتب على النائب ان يطرق باب كل وزارة كلما توجب عليه تلبية أي خدمة من الخدمات التي تطلب منه، والنائب الذي يعارض الحكومة بإرادة شخصية والذي يعمل بإرادة شخصية خالصة في مجال الرقابة والتشريع لن يتمكن من تقديم أي خدمة للناس، وسوف تحاصره اجهزة الحكومة وتبعده عن نيله لرضى قواعده الانتخابية، وتغلق أبواب الوزارات في وجهه، تاركةً خط الرجعة مفتوحاً أمامه، وطريق الرجعة معروفة.. وهي المجاراة والتأييد المستمر والبقاء تحت ظل رغبات الحكومة. فحتى ميزانية مجلس النواب وميزانية ديوان المحاسبة،الذرع الرقابي الأول لمجلس النواب؛ ما زال أمر تحديد ميزانيتهما بيد الحكومة، رغم كل الجهد الذي بذله المجلس السابع عشر سابقاً، في سبيل فك هذا التداخل الصارخ بين السلطتين.
مجلس النواب هو مؤسسة الحكم والتشريع الأولى، والمؤسسة الأعلى شرعية تمثيلية بين باقي مؤسسات الدولة، وتشكيل المجلس يأتي على فصالة قانون الانتخاب، وعمل المجلس يحكمه النظام الداخلي والدستور، فاذا ما كنا جادين بالدفع بعربة الإصلاح السياسي فأول ما علينا فعله هو اصلاح قانون الانتخاب، والنظام الداخلي لمجلس النواب، والمواد العالق بالدستور، وهذا يبدأ بإنجاز قانون إنتخاب جديد يضمن حصة لاتقل عن الثلث من مقاعد المجلس للقوائم الحزبية المنتخبة على الدائرة الوطنية، واضافة مادة بالدستور تكفل للأحزاب الحق في حصة في مجلس النواب، كي لا يتم الطعن بها دستورياً كما حصل عند اقرار قانون الانتخاب عام 2012، حيثُ خَلٌصَت دراسة لمركز القدس للدراسات السياسية بعنوان: "أثر قانون الانتخاب لعام 2016 على بنية مجلس النواب وأدائه" بأن صغر الدوائر الانتخابة يعد السبب الأهم لضعف قانون الانتخاب، والذي أدى إلى ضعف أداء مجلس النواب الحالي، حيث أن دوائر الانتخاب الأوسع نطاقا تفتح المجال أمام ترشح الحزبيين وأمام تشكيل الإئتلافات الحزبية، التي بمقدورها أن تأتي للمجلس ببرنامج مشترك على الأقل، أفضل من حالة التشرذم والفردية التي يعمل بها المجلس الحالي بسبب هذا القانون.
وعلى صعيد النظام الداخلي لمجلس النواب، فإنه يتوجب الدفع بتعديل النظام الداخلي لجهة وضع صلاحيات تنظيم عمل المجلس وصلاحيات تحديد الأولويات التشريعية بيد المكتب التنفيذي بدلاً من ابقائها بيد الرئيس وحده، حيث أن المكتب التنفيذي يتشكل من أعضاء المكتب الدائم ورؤساء الكتل النيابية أو من يمثلها وممثلاً عن المستقلين عن الكتل، مما يجعل قراراته أقرب لأن تمثل إرادة مكون مجلس النواب؛ ومن ثم رفع عمر اللجان النيابية من سنة إلى سنتين على أن تتشكل بقرار من المكتب التنفيذي على أساس الإلتزام بمبدأ التمثيل النسبي للكتل النيابية باللجان، والذي من شأنه أن يحقق الاستقرار التشريعي من جهة، وأن يرفع من جودة التشريع من جهة أخرى حيث تتشكل اللجان من المكون السياسي داخل مجلس النواب "الكتل النيابية".
ولتحقيق مبدأ الشفافية لتمكين الناخب من مراقبة السلوك النيابي لنائبه، يجب النص في المادة (88) من النظام الداخلي على الزام المجلس باستخدام التصويت الالكتروني على أن تتولى الأمانة العامة إعداد سجل لكل جلسة تبين فيه أسماء النواب الحاضرين وأسماء النواب الغائبين بعذر أو بدون عذر، وأن يبين السجل نائج تصويت النواب على قرارات المجلس، وأن ينشر السجل على الموقع الرسمي للمجلس ليكون متاحاً أمام المواطنين ووسائل الإعلام.
أعتقد أننا كلما أسرعنا في إنجاز تحديث هذه القوانين، كلما صرنا أقرب إلى الحصول على سلطة تشريعية قوية ومستقلة، وقتها ستكون هذه السلطة قادرة على تحمل مسؤوليات جميع قراراتها، بدون أي عذر عملي أو تقني وسوف تكون المسطرة واضحة أمامنا للحكم على أداء هذه السلطة وعملها بدون تجديفٍ ولا تزييف.