بقلم: م. عبدالرحمن "محمدوليد" بدران
هل سأجد عملاً اليوم أو غداً أم أنني لن أجد أبداً، هل سيتم الاستغناء عن خدماتي اليوم أو غداً وهل سأجد غيره أم لا، ربما تكون هذه الأفكار أكثر ما يشغل بال نسبة كبيرة من الناس هذه الأيام خاصة مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها بلادنا.
صباح اليوم بالصدفة قبل الخروج للعمل شاهدنا مقابلة مع الحارس المصري العملاق عصام الحضري الذي بلغ 44 عاماً، وبرغم ذلك مازال يبذل الجهد مضاعفاً ويحرص على التميز والتألق مع منتخب بلاده، فهو كمثال جدير بالاحترام يقوم بكل التمارين المطلوبة منه حتى أكثر من بعض زملائه الذين يصغرونه بأكثر من عشرين عاماً في بعض الأحيان، ولم يفكر الرجل بأنه أكبر أو أخبر منهم بل بذل الجهد لاثبات إمكانياته وقدراته المتميزة بالفعل لا بالقول فقط.
فليس المهم أن نبذل الساعات بالتخطيط للمستقبل بدون عمل شيئ لليوم والغد، ولكن نستقبل نفحات الصباح بطلب أن يكتب الله لنا ولأحبابنا من الخير ما يكفينا ويرضينا في أي مكان وزمان، فهذا الحبل الموصول مع مالك مفاتيح الخير والشر في الدنيا والآخرة هو الكفيل باذن الله بمنعنا من السقوط والفشل، لأنه سيكون أكبر الأسباب لمواصلة الجهد والتصميم على البلوغ للهدف بشكل منظم وصحيح وهادئ مدعوماً بالصبر الجميل، وما أجمل أن نتذكر دائماً كلام من خلقنا تبارك وتعالى في الآية 6 من سورة هود في القرآن الكريم: {{ومامن دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}}، وقوله عزوجل في الآية 22 من سورة الذاريات:{{وفي السماء رزقكم وما توعدون}} لنقنع أنفسنا بأن ما كتبه الله لنا قادم لا محالة مهما صعبت الظروف أو إرتفعت الأسعار أو انخفضت، وإلا فكيف عاش على سبيل المثال لا الحصر من كتب الله له أن يعيش برغم سقوط أكثر من 60 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية.
ولعلنا نذكر أنفسنا دائماً بقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت)) صححه الألباني، فرزقك مقسوم لك حتى وإن هربت منه، وإيماننا بذلك لن يتحقق إلا عندما تستقر في قلوبنا معرفتنا بالرازق عزوجل، وسنعرف عندها أن الرزق لا يكون إلا بالطلب ممن يوزع الأرزاق والتوكل عليه ببذل الجهد والعطاء دائماً بدون توقف، ولعل من أروع ما قال الشافعي رحمه الله في ذلك: توكلت في رزقي على الله خالقي، وأيقنت أن الله لا شك رازقي، وما يكن من رزقي فليس يفوتني، ولو كان في قاع البحار الغوامق، سيأتي به الله العظيم بفضله، ولو لم يكن مني اللسان بناطق، ففي أي شىء تذهب النفس حسرة، وقد قسم الرحمن رزق الخلائق.
يروى أن طبيباً جراحاً خرج من بيته للمشاركة في مؤتمر دولي ولتكريمه فيه، كان متحمساً وصعد الطائرة التي أقلعت بكل هدوء، لكن فجأة تعطلت الطائرة وهبطت إضطرارياً، واضطر الطبيب لاستئجار سيارة للحاق بالمؤتمر، وظل يقود في طريق طويل حتى تغير الطقس فجأة وبدأ المطر يهطل بكثافة وأصبحت الرؤية شبه منعدمة، ولم يتنبه أثناء القيادة أنه ضل طريقه وأحس في الوقت ذاته بالجوع والتعب، ثم رأى أمامه بيتاً صغيراً توقف عنده وطرق الباب، سمع صوت إمرأة عجوز تقول: تفضل بالدخول فالباب مفتوح، وقدمت إليه طعاماً ليسترد قوته فجلس يأكل فيما كانت العجوز تصلي وتدعو، ثم إنتبه فجأة إلى طفل صغير نائم بلا حراك وهي تهزه بين كل صلاة وصلاة، فسألها الطبيب: يا أم، والله لقد أخجلني كرمك ونبل أخلاقك وإغاثتك الملهوف، وعسى الله أن يستجيب كل دعواتك، فقالت: يا ولدي، أنت إبن سبيل أوصى بك الله كل من في قلبه إيمان، وأما دعواتي فقد أجابها الله سبحانه وتعالى إلا واحدة، ولا أدري ما السبب ولعله قلة إيماني، فقال: وما هي تلك الدعوة، ألك حاجة في نفسك أقضيها فأنا مثل ولدك، قالت العجوز: بارك الله فيك يا بني، ولكن لست بحاجة إلى شيئ لنفسي، أما هذا الطفل فهو حفيدي وهو يتيم الأبوين وقد أصابه مرض عضال عجز عنه كل الأطباء، وقيل لي أن جراحاً واحداً قادراً على علاجه يقال له سعيد يعيش على مسافة كبيرة من هنا، ولا طاقة لي بأخذ الطفل إلى هناك، وأخشى أن يأخذ الله أمانته ويبقى هذا المسكين بلا حول ولا قوة، فدعوت الله وما زلت أن يسهل أمري وأجد طريقة أعرضه بها على الطبيب سعيد عسى الله أن يجعل الشفاء على يديه.
بكى الطبيب متأثراً مما يسمع وقال: يا أم، والله لقد طرت وسرت وعطلت الطائرات وضربت الصواعق وأُمطرت السماء كي تسوقني إليك سوقاً، فوالله ما أيقنت أن الله عز وجل يسبب الأسباب لعباده المؤمنين إلا في بيتك هذا، فأنا ذاك الطبيب سعيد، فبكت العجوز وهي تسمع كلامه ولم تزد على قول سبحان الله ما أعظمك يا رب.
فكيف بعد كل هذا يظن أحدنا أن من يسر الرزق للنملة في أصغر الجحور يمكن أن ينساه أو يهمله، ناسياً النهوض والتعوذ من الهم والحزن والعجز والكسل والبعد عن التباطأ في طلب الرزق أو التذمر من تأخر وصوله إليه، {{وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}} الآية 216، سورة البقرة.
ويروى أنه قيل لأعرابي : لقد أصبح رغيف الخبز بدينار، فأجاب : والله ما همني ذلك، فأنا أعبد الله كما أمرني وهو يرزقني كما وعدني فما همني لو أصبحت حبة القمح بدينار !