د. صلاح جرّار
أستمع كثيراً إلى حوارات السياسيّين والمثقفين حول أسباب أزمة الأمّة و انفراط عقدها على هذا النحو الذي نشهده اليوم ولا نملك أن نفعل شيئاً إزاءه، فيخيفني كثيراً ما تنزلق إليه تلك الحوارات أو ما تنتهي إليه. صحيح أنّ من حقّ المثقف أو السياسي أو المفكر أن يذهب في تفكيره كيفما يشاء، فكلّ إنسان حرٌّ في تفكيره، ولكن أن ينسى هؤلاء المثقفون والمفكرون الأسباب الحقيقية لمعاناة هذه الأمّة، وهو الوجود الصهيوني الطارئ والغريب على الأرض العربيّة، والدعم المطلق الذي يتلقاه الصهاينة من الغرب الأوروبي والأمريكي وسواه عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً، حيث يتآمرون على العرب والمسلمين وثقافتهم وتراثهم علناً وخفيةً من أجل تفكيك الأمّة من داخلها.
يتجاهل المثقفون والسياسيون والمفكرون العرب، بل بعضهم ممّن يتصدّرون صفحات الجرائد وشاشات التلفزة ومنصّات القيادة، يتجاهلون هذه الحقائق الواضحة والصارخة التي تقوم عليها شواهد وأدلة لا تحصى، ويذهبون للبحث عن أسباب أخرى لهذا التداعي تفضي إلى المساس بالثوابت الثقافية والفكرية لهذه الأمّة، وهي الثوابت التي تستند إليها الأمّة وهو تواجه التحديات البالغة والأخطار الشديدة التي تواجهها من الكيان الصهيوني وحلفائه.
إنّ من حقّ أي مفكر أو سياسي أو معتلٍ لأيّ منصّةٍٍ ثقافية أن يبحث عن الأسباب في كل زاوية يظن أن سبباً من الأسباب قد يكمن فيها، لكن عليه أن يتوخّى الحذر من الشروع في الهدم لمجرّد الوهم أو الظنّ أو الافتراض.
لقد شرع كثير من هؤلاء المثقفين وأصحاب الأفكار (المتطرفة) بالهدم والحفر في الأساسات والقواعد دون تبيُّنٍ كافٍ للخطر الذي قد يتبع هذا الهدم، وتناسى هؤلاء (المتطرفون الجدد) أنّهم بما يقدمون عليه وبحماسة منقطعة النظير إنّما يزيدون الطين بلّة ويسهمون في زيادة انهيار هذه الأمّة وتمزّقها. إنني أتفق مع بعض مؤيّدي هذا المنهج أنّه لا بدّ لنا من مراجعة أشياء كثيرة في واقعنا وأنماط سلوكنا وبعض ما نشأنا عليه، ولكن على أن يكون ذلك من باب تطوير هذا الواقع والارتقاء به وتوخّي مصلحة الأمّة، وأن لا تكون هذه المراجعة استجابة لرغبات أعداء الأمّة أو تماشياً أو اتفاقاً مع تلك الرغبات، وعلى أن لا ننسى تحت أي ظرف من الظروف أنّ كلّ ما يصلح من ثقافتنا أن يكون سلاحاً في وجه الاحتلال والتحديات لا بدّ من الحفاظ عليه والتشبث به والدفاع عنه بكل الوسائل الممكنة، وأنّ كلّ عنصر مستهدفٍ من قبل أعدائنا فإنّ استهدافه دليل على أهميته في استمرار وجودنا ودعم صمودنا في وجه التحديات والأخطار.
إنّ مساس المفكرين والسياسيين والمثقفين بأيّ مكوّن ثقافي مقاوم، هو صورةٌ من صور التواطؤ على الثقافة العربيّة والإسلاميّة وعلى الأمّة العربية و الإسلامية، وهو شكل خطيرٌ من أشكال التطرّف لا يقل خطورة عن أشكال التطرّف الديني والمذهبي والعرقي التي تعاني منها أمتنا في هذه الأيّام.
إنّ مقاومة التطرّف الأسود لا يسوّغ لأهل الفكر والثقافة والسياسة أن يبتكروا تطرّفاً أكثر سواداً وأشدّ فتكاً وبطشاً بالأمّة وتاريخها وتراثها ومبادئها وقيمها، ولا يسّوغ لهم أن ينزلقوا إلى مواقف قد تلتقي في مساراتها وأهدافها ونتائجها مع الأعداء الذين يحتلّون الأرض العربيّة ومقدّساتها ويشرّدون أهلها ويسعون إلى إلغاء وجودها.
إنّ مسؤولية المحافظة على هويّة الأمّة وثقافتها وتراثها وفكرها وقيمها ومبادئها وثوابتها تقع على كاهل المثقفين قبل غيرهم، فإذا خانوا هذه الأمانة وتخلّوا عن هذه المسؤولية المقدّسة، فلنقرأ على أمّتنا السلام.
عن الرأي