لطالما أبدع الشعب الفلسطيني في وسائل مقارعته للاحتلال الصهيوني. وعلى قاعدة أن "الحاجة أم الاختراع"، كأني بالمعاناة التي يعيشها الفلسطيني باتت مصدر إلهام، فنراه في كل مرة يبتكر ويطور الأدوات البدائية لمواجهة الترسانة العسكرية الإسرائيلية كانت "مسيرات العودة" آخرها. ولعل استخدام الطائرات الورقية، المحملة بزجاجات حارقة تحتوي عادة على فحم وأكياس سكر لضمان احتراق طويل وبطيء، من ضمن هذه الأدوات التي باتت وسيلة للمقاومة تقض مضاجع دولة الاحتلال. فالفلسطينيون يستخدمونها لتنقل المواد المشتعلة فتتسبب بحرائق في الحقول والأحراج داخل المستعمرات/ "المستوطنات" المحيطة بقطاع غزة، إضافة إلى تزويد بعضها بكاميرات لرصد تموضع قوات الاحتلال خلف السياج، في وقت لا يستطيع فيه الشبان الفلسطينيون على الأرض إلقاء "قنابل المولوتوف" على جنود الاحتلال لبعد المسافة.
الفلسطينيون لا يعدمون الوسيلة في مقاومة الاحتلال، بل إنهم قادرون دوما على ابتكار وسيلة تنغص حياة المحتل. وها هي الطائرات الورقية، التي قللنا من شأنها في البداية، أثبتت جدواها بل وربما كبر، حتى لا نقول عظم، تأثيرها، ومن يسمع ردود الفعل الإسرائيلية يدرك هذه الحقيقة. فبحسب الكاتب الإسرائيلي (عوديد شالوم) الذي كان ضمن وفد صحفي زار مستعمرات/ "مستوطنات" محيط قطاع غزة، رفقة وزير "الدفاع" (افيغدور ليبرمان)، فإن الأخير قال خلال الزيارة بإحباط شديد: "إنهم يتطورون طوال الوقت. لقد بدأوا بطائرات تحمل ألوان علم فلسطين، لكنهم أدركوا أننا حددناها في الهواء بسبب الألوان وتحولوا إلى النايلون الشفاف الذي لا يمكن رؤيته في الجو، وقد سقطت هذه الطائرات الشفافة لدينا فجأة. الضرر لا يتوقف على حقول القمح، بل أصاب أيضا أنظمة الري. هو ضرر مضاعف، وماذا عن ساعات العمل الإضافي، أليست ضررا، وهذا كله بسبب الطائرات. هذا لا يصدق". وفي السياق، قال عضو الكنيست (حاييم يلين) الذي سقطت إحدى الطائرات في منزله القريب من حدود غزة: "من يستخف بالطائرات الورقية سيجد لاحقا طائرات مسيرة داخل التجمعات السكنية اليهودية". وأضاف: "لا فرق بين الطائرات الورقية الحارقة وبين كتائب قذائف القسام". أما رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست (آفي ديختر) فقال: "يجب أن نواجه (إرهاب) الطائرات الورقية الحارقة بالصبر برغم الألم الذي يصيبنا مع احتراق كل حقل قمح إلا أنه لا يجب أن يكون الزناد حلا سهلا لهذا النوع الجديد من المواجهة بل يمكن أن يصبح مشكلة". كما نقلت صحيفة "إسرائيل اليوم" عن قائد اللواء الجنوبي في الشرطة الإسرائيلية، (يعقوب جباي) أن "الطائرات الورقية تتطور من يوم لآخر. شاهدت طائرة ورقية موصولة بكيس بنزين. هذا شيء جديد لم أشاهد مثله من قبل". ويقول (موشيه بروخي) المشرف على غابات "دائرة أرض إسرائيل في النقب الغربي": "نحن بحاجة إلى قبة حديدية هنا مضادة للطائرات الورقية". أما الكاتب (شالوم) نفسه فكتب متهكما: "من المفارقات: في الوقت الذي تصب فيه إسرائيل المليارات على الحاجز الأرضي في قطاع غزة، طوّر أولاد غزة أسلحة بقرش ونصف".
وفقا لتقديرات الصحافة الإسرائيلية، تخطت خسائر الحرائق التي تسببها الطائرات الورقية مئات آلاف الشواكل، ولذلك قال جيش الاحتلال إنه "سيرد على إطلاق الطائرات الورقية الحارقة من غزة تمامًا كما يرد على إطلاق الصواريخ". ووفقا لموقع "واللا" العبري، استهدفت الأوامر العسكرية الإسرائيلية مطلقي الطائرات الورقية من خلال إطلاق النار المباشر عليهم. بل إن مقاتلات إسرائيلية قصفت موقعا تابعا لحركة "حماس" ردا على ما أسمته "هجوم الطائرات المشتعلة"، حيث قال بيان لجيش الاحتلال إن "الموقع استُخدم لإطلاق قنابل حارقة إلى داخل إسرائيل".
لقد بات واضحا أن ما يخيف دولة الاحتلال هو تعاظم وسائل المقاومة الشعبية الفلسطينية التي تتحدى رابع أقوى جيش في العالم، والتي بدأت تترسخ في ذهن العالم أجمع. وليس من المستبعد أن تبدأ الساحة الفلسطينية تشهد واقعا جديدا تؤثر تبعاته بشكل ما على المشهد السياسي الفلسطيني، خاصة مع الإفراط الإسرائيلي في العنف الموجه ضد الشعب الفلسطيني. فالمستوى السياسي الإسرائيلي بات يشعر بالقلق ويجد نفسه في زاوية الدفاع عن النفس في مواجهة الانتقادات الدولية تجاه قتل وإصابة أطفال وصحافيين ومدنيين جراء قمع "مسيرات العودة".
ومع توقف مسيرات العودة مؤقتا على الأقل، وبعد أن ختمها جيش الاحتلال الإسرائيلي بمجزرة كبرى لا تزال أصداؤها تتردد على امتداد العالم، يجب العمل على استمرار المقاومة الجماهيرية الشعبية من خلال انتهاج استراتيجية الاشتباك المستمر على الأمد الطويل، بل وتوفير كل مقومات تصاعد التفاعل الشعبي مع أحداثها، مع الانخراط الواسع في فعالياتها ما يمنح الوقت لإنضاج انتفاضة شعبية شاملة على امتداد الوطن من جهة، وتمنح الفلسطينيين، من جهة ثانية، العلاج الفعال ربما لإنهاء فضيحة، بل نكبة، الانقسام الفلسطيني/ الفلسطيني!!!