نتذكر تفاصيل تلك المكالمة التي جرت على الحدود وقت الظهيرة جيداً، والتي سنعود لبداية علاقتنا بها قبل سرد تفاصيلها، حيث بدأ الأمر قبل تخرجنا من الجامعة بعام تقريباً عندما رشحتنا الجامعة كرئيس للجنة التحضيرية للبرلمان الطلابي لحضور مؤتمر حول التنمية السياسية في بلادنا برعاية معالي وزير التنمية السياسية وقتها محمد داوودية وحضور عدد من الأعيان والنواب وأساتذة الجامعات الأردنية، وبالفعل حضرنا وناقشنا واقع الأحزاب في بلادنا منذ الأحكام العرفية في الخمسينات وحتى ذلك الوقت مما فاجئ بعض الحضور على ما يبدو، الأمر الذي دفع بالمستشارة الثقافية في السفارة الأمريكية السيدة بسمة عماوي للتعرف علينا خلال الاستراحة وطرح إنضمامنا لبرنامج التبادل الثقافي بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة الأردنية الهاشمية، وهو برنامج يرشحنا بمجرد تخرجنا لجولة تمتد لأشهر في الولايات الأمريكية نتعرف فيها على فرص عمل حقيقية قد نفوز بأحدها، وافقنا يومها على فرصة كهذه يتمناها أي طالب جامعي ينتظر التخرج بعد أشهر قليلة، وبالفعل بعد فترة قصيرة وصلنا إتصال من السفارة الامريكية يطلب منا صورة جواز سفرنا لانهاء إجراءات تأشيرة الدخول وكل الاجراءات اللازمة للجولة، ليقترب بعدها يوم التخرج المنشود والوالدة التي تعيش مع الوالد في المملكة العربية السعودية مازالت تعاني من مرضها الذي لازمها ما يقارب العشرين عاماً، حتى بدأ الشك يساور الجميع ترى هل ستحضر الوالدة تخرجنا أم لا، وكان الأمر فيه تردد كبير حيث كانت حالة الوالدة الصحية تزداد صعوبة وحالتنا النفسية تزداد تعقيداً معها بشعور أن لا تحضر والدتنا حفل تخرجنا من الجامعة، لكن إصرار الأم كان أقوى من كل شئ، فكابدت كل ألمها وحضرت للأردن لحضور حفل التخرج مع الوالد في اليوم الذي أكرمتنا فيه الجامعة بالقاء كلمة الخريجين، والتي استغرب كثيرون توترنا فيها برغم تقديمنا للعديد من المهرجانات والاحتفالات قبلها، لكن هؤلاء لم يعلموا أننا كنا نقدم كلمتنا لوالدتنا لأول وآخر مرة في حياتنا والتي كانت برغم كل تعبها ومرضها مشرقة كالشمس من شدة فرحها في حفل تخرج إبنها الوحيد حتى ساور الشك بعض الزملاء بأنها مريضة أصلاً !
بعد الحفل بدأت الحرب النفسية بداخلنا ترى هل نبقى في الأردن بعيدين عن والدتنا المريضة أم نعود للعيش بجانبها في السعودية، وبالتالي نخسر فرصة جولة الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من النجاحات التي حققناها خلال سنوات دراستنا الجامعية.
وبقينا نستخير ونستشير ونفكر كثيراً حتى حجزنا فجأة تذكرتنا للسفر بالباص للعاصمة السعودية الرياض، ثم نتلقى وقت الظهيرة عند وصولنا للحدود تلك المكالمة التي بدأنا بها مقالتنا من المستشارة الثقافية في السفارة الأمريكية تؤكد لنا أننا سنخسر فرصة ذهبية يتمناها الآلاف بمجرد مغادرتنا الحدود وتتمنى علينا عدم التسرع، إلا أن جوابنا كان هو الطلب منها ترشيح إسم آخر غير إسمنا لأننا إتخذنا قرارنا ولن ننظر للخلف أبداً.
كان وصولنا للسعودية لنكون بجانب والدتنا في شهر 3 من ذلك العام، ونتذكر جيداً أول يوم عمل في حياتنا يوم 07-05 عندما دخلت الوالدة المستشفى في ذات اليوم، وبرغم الألم إشترينا قالب حلوى وأخذناه لها في المستشفى تفاؤلا بأنها ستخرج قريباً باذن الله، لكن الحقيقة أنها غادرت السعودية بعدها في شهر 7 إلى الصين للعلاج في رحلة غادرت منها الدنيا بأكمها رحمها الله تعالى، ليكون مجموع ما قضيناه بجانبها منذ عودتنا للسعودية 4 أشهر فقط.
وللحقيقة وبعد مرور أكثر من 10 سنوات على هذه القصة كثيرون عندما يسمعوا تفاصيلها يلوموننا بأننا أضعنا من أيدينا فرصة لا تتكرر في العمر مقابل أشهر قليلة قضيناها مع الوالدة، لكن إجابتنا كانت وستبقى دائماً: لا تندم، لا تندم على أي لفتة طيبة تقدمها لوالدتك في حياتك فان كان مقابل ذلك فرصة لا تتكرر في حياتك فوالدتك هي الجوهرة التي لا ولن تتكرر في حياتك أبداً، ورضاها عنك هو المفتاح لكل فرصة وتوفيق ونجاح في حياتك دائماً وأبداً باذن الله، فوالله الذي لا إله إلا هو لن يكون تصرفنا إلا كما كان لو عاد بنا الزمن إلى الوراء.
ليسارع كل منا ونحن نستقبل بعد أيام قليلة شهر الرحمة والغفران شهر رمضان المبارك الذي نسأل الله عزوجل أن يجعله شهر خير وبركة على الجميع لطبع قبلة على جبهة والدته وإغتنام فرصة وجودها بجانبه لرسم إبتسامة جميلة على وجهها، وليسارع من غادرت والدته هذه الدنيا قبله للاكثار من الصدقات الجارية والدعوات الجميلة والأفعال والكلمات الطيبة التي تجعل كل من يراه ويرى أفعاله يدعو لمن رباه وعلمه هذا الجمال وحسن الخلق.