واجهت منطقة الخليج العربي حوادث غرق جماعي للسفن أقربها إلى
الذاكرة سنة الطبعة 1923 حيث التهمت مياه الخليج آلاف الشباب من العاملين في الصيد
وصيد اللؤلؤ، وهذه الأحداث حتى لو أصبحت جزءًا من ماضٍ بعيد، إلا أنها تترك في
طريقة التفكير المتوارثة بصمات خفية وبعيدة بحيث تهمل في توظيفها لتفسير السلوك
وطريقة التفكير.
تؤثر في دول الخليج بحارٌ أخرى من الرمال الممتدة جعلت
القبائل التي تسكن المنطقة تحاول الاستيطان عند مصادر المياه القليلة في حالة تأهل
مستمرة ومتصلة ولدت قلقًا عميقًا ووجوديًا من فكرة قدوم المنافسين من المرتحلين
الذين يبحثون عن الضالة نفسها، المياه الشحيحة التي تسمح بقيام تجمعات قبلية
تستطيع أن تأمن على نفسها من ضراوة الحياة في الصحراء.
من الناحية الجغرافية مثلت منطقة الخليج مفارقة من نوع خاص،
فالعثمانيون يقدمون مزاعمًا بتبعية المنطقة لهم، ومع ذلك لا يتصرفون بأدنى مسؤولية
تجاهها، والبرتغاليون والبريطانيون رأوها موقعًا استراتيجيًا على طريق تجارتهم مع
الهند وآسيا، ولكنها عديمة الموارد تقريبًا وبالتالي تعاملت معها كحيز من المكان،
وحتى مصر محمد علي زهدت في المنطقة لعدم توفر الموارد التي يمكن أن تمول جنودها في
نجد وجوارها.
الإيرانيون في مرحلة ما كانوا غير مهتمين بسواحل الخليج
الشرقية، لتسيطر عليها قبائل القواسم من رأس الخيمة لفترة من الزمن، ولم يكن
الساحل الشرقي للخليج أفضل حالًا من ساحله الغربي الذي تتواجد عليه ست دول عربية.
دفعت اكتشافات النفط في العراق وإيران الشركات الكبرى في
مجال التنقيب للتوجه إلى منطقة الخليج وتحقق ذلك قبل مائة عام في البحرين، ولكن
بقيت المجتمعات العربية غير مهتمة بالخليج وشؤونه كما يظهر في الصحف والمجلات التي
صدرت وتحدثت عن أمور كثيرة منها ما كان متعلقًا بإيران وجنوب افريقيا من غير أي تغطية
أو اهتمام بالكوارث التي تلحق بأهل الخليج وخاصة حوادث الغرق الكبيرة.
يتحدث البعض عن مساهمات مصرية وشامية كانت موجهة لإقليم
الحجاز في سياق حديث يظهر شيئًا من العناية بالخليج في مراحل مبكرة، وهو ما يدلل
على الجهل ومحاولة إدعاء دور لم يكن موجودًا حيث أن سبب التواجد في الحجاز مرتبطًا
بالحج والشعائر المقدسة، والمنطقة كانت نشطة اقتصاديًا بشكل عام.
محاصرة الخليجيين بين الخوف من البحر والبر معًا كانت
تدبيرًا بريطانيًا، فالبريطانيون لا يريدون للقبائل الخروج بحريًا ليشكلوا خطرًا
على طرق الملاحة الرئيسية، ومعنى ذلك، تهدئة بعض المناطق البرية لتستوعبهم وبحيث
يضمن البريطانيون الأمن من الصراعات القبلية، وكما كانت مدفعية نابليون بونابرت
تفتتح عصرًا جديدًا في المشرق العربي، خطت مدافع وليام جرانت مبادئ الجغرافيا
السياسية في منطقة الخليج.
داخل مفهوم الخيانات المستمرة من البحر وتقلباته، والتهديدات
المتواصلة من الصحراء ووحشيتها، نشأ لدى الخليجيين مفهوم الديرة وداخله تطورت
أدوات القيادة الأبوية، فالموارد الشحيحة كانت تعني بحثًا عن معادلة لتوزيعها داخل
أهل الديرة، وحمايتها من التهديدات الخارجية ضمن استراتيجية اعتمدت على الحساسية
والحذر، فالغزو يقوم على المباغتة ومن غير مقدمات، والديرة لا تتحمل تكلفة دمج
هيكل دفاعي دائم في بنيتها، وحدها الكويت استطاعت أن تفعل ذلك مع آل الصباح نظرًا
لتواجدها على مدخل مهم تجاه الكتلة الجغرافية لجنوب الإمبراطورية العثمانية مما
كان يوفر لها موارد تجارية قياسًا بإمارات ساحل عمان وقطر.
بقيت الديرة محدودة في عدد سكانها، ومع الثراء الذي وفره
البترول، كانت الأمور تتعقد كثيرًا، وفجأة بدأت ايران تطالب بالخليج الذي كان
مهملًا، وفي المقابل ظهرت مصر ولكن مع موقفها الظهير لدول الخليج، لم تتردد بوصفها
بالرجعية مع محاولة تصدير نموذج ثوري لم تكن تحتاجه أو تفهمه أو تريده هذه الدول،
ولا تستطيع أن تتحمل تكلفته في المدى البعيد بالمناسبة، ثم ما هي دوافع الثورة
التي يمكن أن تتحرك في الخليج، العدالة الاجتماعية! ضد من الظاهرة الاقطاعية أم
البرجوازية؟
بشكل عام، ولأسباب عرقية وثقافية وجدت دول الخليج نفسها
مندفعةً تجاه العمق العربي المتمثل في مصر والشام حيث الوفرة السكانية التي تعوز
دول الخليج، ولكن الثقافة نفسها كانت سببًا للخلاف الذي بقي يتنامى بصمت وسط نظرة
تذاكي وتعالي تراوحت بين الإعلان المباشر من الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور
السادات، أو الخطاب الإعلامي والتداول الشعبي حول التفوق الحضاري، ووسط ذلك كله،
لم يكن أحدٌ معنيًا بتفهم الديرة من الداخل، وحتى المقربين من الأوساط الخليجية
فإنهم اكتفوا بأدوار وظيفية متباينة لم تجعلهم يتعمقون في تفهم العقلية الخليجية.
في مرحلة ما، بدى الأردن الأقرب إلى منظومة الخليج العربي،
خاصة أن رحلة الجيش العربي أخذت منحى استيعابي مع الظهير البدوي، ولعل الأردن كان
أقرب للخليجيين على المستوى الذهني من العراق أو اليمن، وكلاهما مجتمعا وفرة لا
تتسق مع نمط التفكير الخليجي العميق (المتوارث في الأجيال)، ويجب الانتباه إلى أن
مجتمعات الخليج لا تعيش ثقافة وفرة بقدر ما تعايش ثقافة فائض، وهذه النقطة التي
أضيفت إلى هموم القيادات الخليجية مؤخرًا، وبدأت في ظهورها مع الملك فيصل بن عبد
العزيز في السعودية.
الصدمة الكبرى التي غيرت الخليج العربي وجعلته يلقي (بعقاله)
ويهجر المعادلات القديمة تمثلت في غزو الكويت صيف 1990، ويبدو أن الترويع الذي لحق
بالكويتيين كان السبب الجوهري في تغيير التفكير، فمصر في عصر عبد الناصر دخلت
اليمن، وقصفت مواقع سعودية، ولكن جيشها لم يتداخل مع المدنيين ولم يترك مشاهد
تستهدف المجتمع ووجوده، لأن الاستراتيجية قامت على التثوير في الحالة المصرية وليس
الإنكار والإلغاء، ولذلك تجاوز الملك فيصل عن الصراع بعد هزيمة حزيران 1967 وتصالح
مع عبد الناصر في موقف تاريخي على قدر كبير من الأهمية ويظهر جانبًا عميقًا من
طريقة التفكير في الخليج.
الأجيال الجديدة من القيادات الخليجية بقيت تحتفظ بذكرى
الارتباك الذي أحدثته حرب الخليج، ولأن طروحات كثيرة ظهرت على مستوى النخبة
العربية برعاية من النظامين العراقي والليبي (المفارقة يعيش نفس ظروف الخليج)، فقد
تغذت فكرة البحث عن معادلة أبعد للأمن وإن اتخذت غطاء الحماية المعلنة.
ليس من الضروري استذكار أن عدد مواطني ثلاث دول بالغة الثراء
في الخليج (الإمارات والكويت وقطر) يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة بقليل، وأن قدرتهم
على الحشد العسكري لا تتجاوز مائة ألف مقاتل (الدول الثلاثة مجتمعة)، ولتفهم
الوضع، فعدد سكان مدينة الإسكندرية 5.7 مليون نسمة، وعدد أفراد الجيش التونسي
يقترب من 100 ألف مقاتل.
بين الماضي المرير والمستقبل المعقد وطبيعة الشخصية الخليجية
المتحفظة أتت ضربة إسرائيل للدوحة، وهي الضربة التي ستغير المنطقة، بغض النظر عن
طبيعة النتائج المباشرة التي أنتجتها القمة الإسلامية في الدوحة بالأمس، فالصدمة
لم تستوعب بالكامل، وحساباتها ستبدأ في التفاعل خلال المرحلة المقبلة، ولكن توجد
مؤشرات مهمة ستؤدي إلى استخراج نسخة جديدة من العقلية الخليجية، ستعيد التفكير في
التصور الأمني الذي وضعته أمريكا ضمن منطق الصفقات، وهو منطق يبدو أكثر واقعية من
الشعارات الذي وجده الخليجيون موضوعًا أماهم لسنوات طويلة من الدول العربية، ومن
أهم هذه المؤشرات:
1.
يهرع الشيخ محمد بن زايد مع أشقائه إلى الدوحة مباشرة،
ويتوجه ولي العهد الأمير الحسين إلى هناك، ومن المتوقع أن يزور الأمير تميم بن حمد
عمان قريبًا.
بمعنى أن التنافس القطري – الإماراتي الممتد لنحو عقدين من
الزمن يبقى عرضيًا مقابل المشترك في الثقافة والهموم الوجودية، والأردن يبقى عمقًا
حيويًا للخليج.
2.
يشارك الأمير محمد بن سلمان في قمة الدوحة، ومع طموحات كثيرة
للسعودية لمقاربة جديدة تجاه علاقة حذرة ومكلفة مع الأمريكيين دفعت إلى انفتاح مع
روسيا والصين.
يفهم من ذلك وأنه على الرغم من الاهتمام بمنطقة البحر الأحمر
ومشاريع الميجا – ترانزيت المستقبلية، فالخليج يبقى في مقدمة أولويات السعودية،
ودور الشقيقة الكبرى غير قابل للتفاوض أو المساومة.
3.
يحضر رئيسي تركيا وإيران القمة في الدوحة.
الأتراك والإيرانيون منافسون تقليديون، لديهم طموحات في
النفوذ داخل المنطقة، ولكنها مؤطرة ضمن وقائع تاريخية ممتدة، ولا يوجد تفوق مبدئي
لأي من البلدين يبرر نزعة سيطرة واسعة أو سطوة واضحة كما تسعى إسرائيل لأن تفرضه،
وتصعد تجاهه مؤخرًا.
4.
يبدو الرئيس المصري مستعدًا للخروج من منطقة الانكفاء التي
كلفته استراتيجيًا في ليبيا والسودان وأثيوبيا لأن ترابط المصالح مع الخليج لا
يمكن تجاوزه.
بجانب الإسهام الخليجي في الاقتصاد المصري يوجد نحو خمسة
ملايين مصري يعملون ويقيمون في الخليج.
5.
باكستان النووية والمنتشية بخروج مشرف من حرب خاطفة مع
الهند، تحضر بوصفها رديف يمكن أن يعزز من موقعه تجاه المنطقة بالمعنى الأوسع الذي
يتجاوز مصالحه مع دول الخليج.
بطبيعة الحال، لا يعني ذلك توفر الظروف الموضوعية لحرب شاملة
وقريبة كما يقتضي النموذج الشعاراتي، فببساطة ما زالت اسرائيل مشروعًا غربيًا
ويتوقع مع صعود اليمين في أوروبا وأمريكا أن يحقق المزيد من المكتسبات، ولكن ما
سيحدث هو تحول كبير وعميق وتدريجي سيؤدي إلى حالة من الإرهاق ليست في مصلحة الغرب
على المدى الطويل نظرًا لمشكلات سكانية وثقافية مختلفة.