الحقيقة
الدولية - من وثيقة العهد إلى مرآة الذات في السياسة، لا تُعلَن الكوارث دائمًا
بالضجيج، ولا تُسجَّل الخيانات بالدم وحده، أحيانًا، يزحف الانهيار على مهل، بين
همساتٍ في ممراتٍ مغلقة، كلمة تُحذف هنا، فقرة تُضاف هناك، حتى نستفيق على سؤالٍ
يخزّ الضمير:
أين تاهت الفكرة؟ ومن سرق روح الجماعة؟
بداية
الانحدار… عبثٌ لا يُغتفر
ليس العبث
بالنظام الأساسي لحزبٍ ما مجرّد تعديل تقني أو تنميق لغوي في وثيقة تنظيمية، بل هو
لحظة السقوط الأولى، اللحظة التي يتحوّل فيها الحزب من مساحةٍ مشتركة إلى ملكيةٍ
خاصة، من عهدٍ جماعي إلى أداة تفاوض، من صدى الناس إلى صدى فردٍ لا يرى إلا ذاته.
فالنظام الأساسي
ليس ورقةً إدارية تُناقش كما تُناقش موازنة أو جدول أعمال، بل هو الروح المكتوبة
للمشروع، مرآة القيم والعقد الذي اجتمع حوله المؤسسون في لحظة صدق، حين كان الولاء
للفكرة يسبق الانتماء.
وعندما يُعدَّل
هذا النص بعيدًا عن الهيئة العامة، دون نقاش وبحجّة تفويض شكلي في غير محلّه
وتوقيته، فإن ما يحدث لا يُعدّ خللًا إجرائيًا، بل خيانة محسوبة، باردة، ومقصودة.
حين يُخمد صوت
الجماعة… ويعلو صوت الفرد
أسوأ ما يصيب
الكيانات السياسية أن تُفرَّغ هيئاتها العامة من مضمونها، فتُستدعى لتكميل المشهد
لا لصناعته، ثم يُسدل عليها الستار، وما إن تُهمَّش تلك الهيئة، حتى يتحوّل الحزب
إلى واجهةٍ خاوية من الجوهر: القرار يُصاغ خلف الأبواب، والتشاور يصبح ترفًا،
والنتائج تُرسم مسبقًا.
وحين تُكمَّم
الأصوات باسم "المرحلة الحساسة" أو "الاستقرار التنظيمي"،
فإننا لا نواجه حكمة، بل قناعًا ناعمًا للاستبداد.
إنها مفارقة
قاتلة:
ديمقراطية تُعلَن على المنابر، واستبداد يُمارَس في الخفاء.
انتخابات تُدار
كعروض مسرحية، أدوارها محفوظة، ونتائجها معروفة.
النص… حين
يتحوّل إلى سلاح
في الثقافة
السليمة، يُصاغ النظام الأساسي ليحتضن الاختلاف، ويضمن التنوع، ويؤسس للتشاركية،
أما في الثقافة المشوَّهة، فيُحوَّل إلى أداة إقصاء، يُكتب بالحبر، لكن بروح
الولاء الشخصي، لا الولاء للفكرة.
يُقصى من يخالف،
وتُفصَّل البنود لتُرضي أشخاصاً، وتُغتال الفكرة باسم التنظيم، وتُسرق الشرعية
باسم توسيع المشاركة، لم تعد الانتخابات محطات للتنافس، بل نصوصًا محبوكة تُنفّذ
كما تُنفّذ المسرحيات الركيكة.
من الفعل إلى
الطقس… ومن الأمل إلى الخوف
الأزمة لم تعد
في البنية التنظيمية وحدها، بل في جوهر السلوك.
المؤتمرات تحوّلت إلى مهرجانات
تصفيق، والقرارات تُطبخ في الخفاء، وصياغة البيانات تُختار بعناية لتجميل الشروخ،
والتحالفات تُدهس باسم البراغماتية.
وهكذا، يتآكل
الحزب من داخله، يذبل الحلم، ويتبدّد المعنى.
يصبح الحزب مظلّة خاوية لا تحمي
أحدًا، ولا تجمع بين أعضائه إلا الخوف من التفكك.
وحينما … تنكسر
الثقة
الحزب الذي يفقد
صدقه مع نفسه، يفقد جمهوره، لا يهزمه خصومه، بل يغادره أبناؤه.
يتآكل ببطء حتى
يتحوّل إلى هامش في الحياة العامة، عاجز عن الإلهام، بعيد عن الناس، غريب عن روح
بداياته الأولى.
في ميزان
الفلسفة… إنها خيانة الروح
عندما تُغتال
الفكرة باسم "الواقعية"، ويُدفن المشروع خلف تعديلات مدروسة، وفتاوي
قانونية تدبّر في ليل، لا نكون أمام سوء إدارة، بل أمام جريمة في حق الجماعة،
جريمة في حق الذاكرة، والوجدان، والمستقبل، الصمت على هذا الانحراف ليس حيادًا، بل
تواطؤًا، خيانة مضاعفة للفكرة… وللإنسان الذي حلم بها ذات يوم.
النظام الأساسي…
جدار الحلم لا سلّم الاستئثار
إن الدفاع عن
النظام الأساسي ليس موقفًا تنظيميًا فحسب، بل موقفٌ أخلاقي وإنساني، هو إعلانٌ بأن
الحزب بيتٌ لا يُؤسَّس على الفرد، بل على الجماعة، وأن الوثيقة التي كتبها
المؤسسون ليست حبرًا على ورق، بل عهدًا في الضمير.
النظام الأساسي
هو الجسر الذي يعبر عليه الجميع—بلا إقصاء، بلا استثناء، ومن يعبث به، يقطع الطريق
على الجميع، يضع الحلم في قفص، والمستقبل في نفق.
وأخيرًا… الكلمة
الأخيرة للذاكرة
لن يُمحى ما
كُتب، لأن ما جرى من عبث بالنظام الأساسي لن يكن فصلًا عابرًا في الهامش، بل سيظل
وصمة عار لا تُنسى في سجل هذا الزمن السياسي—شاهدًا على لحظة انهيارٍ أخلاقي
وفكري،
تأمّلها من سيأتون بعدنا ويسألون:
كيف انهارت الفكرة؟ ولماذا صمت من شهد
السقوط؟
نحن لسنا شهود
عجز، ولا رواة هزيمة، بل أبناء فكرةٍ عصيّة على البيع، عصيّة على التدجين
والاختزال، لا تقبل أن تُختصر في نصٍ فاقدٍ للشرعية، أو تُقاد على يد قيادةٍ
أسيرةٍ لذاتها.
لقد آن الأوان
أن نقف—لا بردّ فعلٍ غاضب،
بل بموقفٍ عاقل يحمل من الوعي ما يكفي لإضاءة الطريق،
ومن الإيمان ما يكفي لإحياء المشروع،
فـ"أرض الله وسيعة".
لقد كُتب هذا
المشهد بلون الخزي، رغم كل ما بُذل من جهد…
جهد أنهك الجسد، واستنزف الوقت،
والوجدان، وقد سعينا، بكل ما أوتينا من إرادة، لأن نشعل شمعة قبل أن يكتمل الظلام،
لكننا بلغنا النهاية التي حاولنا جاهدين تفاديها، فالمشكلة لم تكن في نصٍ عُدّل،
ولا في ضميرٍ قرّر أن يسقط،
بل في النهج ذاته…
نهجٍ قام على اختطاف رمزية الفكرة،
متدثّرًا برداء "المدنية الشكلية"، فيما هو في جوهره فعل إقصاء، وتهميش،
وسلب لروح الجماعة.
لذلك، لا شماتة
فيما سأقول، بل شفقة على من تبقّى في ظل هذا الانهيار
أبشّركم بسقوطٍ
مدوٍّ… ولو بعد حين.