الصحة العالمية: ألم أسفل الظهر المزمن سبب رئيسي للإعاقة! الحكومة: قانونا الأحزاب والانتخاب ترجمة لتطلعات المواطن وزارة التربية : إجراء اختبار وطني لطلبة الصف الرابع آلاف "الإسرائيليين" يتظاهرون في تل أبيب للمطالبة بصفقة تبادل فورية والإطاحة بنتنياهو "معهد الفلك": عيد الأضحى الأحد 16 حزيران فلكياً "ولادة بدون حمل" يثير جدلا بالشارع المصري التعاون يفشل فيما نجح فيه النصر والشباب أمام الهلال إكس تغير كيفية عمل الحظر للحد من إساءة الاستخدام آبل تعمل على ميزة “حالة الإصلاح” في هواتف آيفون OpenAI تقترب من إطلاق محرك بحث خاص بها الجازي : الأردن يحثُ الدول التي علقت دعمها عن "أونروا" للعودة عن قرارها الدفاع المدني يسيطر على حريق شب في توسعة قيد الإنشاء لأحد المجمعات في الشميساني هل تؤيد ان تتولى رئاسة الوزراء في الاردن سيدة؟.. تقرير تلفزيوني مندوبا عن الملك وولي العهد.. العيسوي يعزي الكباريتي والمحسين والشرع هاري كين يقود هجوم البايرن في صدام شتوتجارت

القسم : بوابة الحقيقة
فتى القرية
نشر بتاريخ : 3/12/2022 10:29:40 AM
د. إبراهيم صبيح

دعني آخذك معي الى تلك القرية البسيطة التي تشبه كل القرى الاردنية في عشرينيات القرن الماضي. دعنا نمشي بين بيوت القرية المبنية من الحجارة والطين المخلوط بقش التبن والقصب. بيوت القرية تضاء "باللوكسات" والشنابر والفتايل و"قزازة الكاز"، اما ماء القرية فيتم جلبه وتخزينه باستخدام "الجركنات" الانجليزية.

ارض القرية تقسم بين افخاذ العشيرة الواحدة ثم تقسم مرة ثانية بين افراد الفخذ الواحد باستخدام مدق حديدي. الحواكير المحيطة بالبيوت تزرع بالخضراوات وهي محاطة بالاسوار والسناسل الحجرية. بيوت هنا وهناك متناثرة بين البيادر والمغارات اما حواري القرية فهي ترابية تمشي فيها الدواب التي تبيت في حوش المنزل او في بعض المغارات المجاورة للقرية. يوجد في القرية مسجد ومقبرة ومطحنة للقمح وبها مدرسة للصفوف الابتدائية الاولى يدرس بها صغار السن الذين يستكملون بعدها دراستهم في مدرسة المدينة ذات الاحجار السوداء المستطيلة. في سهول القرية يتم زراعة القمح والشعير والعدس والكرسنة ويتم حصدها بالمنجل في البيدر ايام الحصاد. دكاكين القرية تحتوي على "مرطبانات" زجاجية يوضع فيها التمر والعجوة والشاي والقهوة والسكر وغيرها وفيها كذلك دفتر البقالة وقلم "الكوبيا" حيث الشراء من الدكان يسجل على دفتر. يَفصل في امور القرية الادارية مختارها الذي يطلب من المتخاصمين ان يبصموا بإبهامهم على المستندات. طعام القرية يتكون من الخبز الساخن المخبوز في فرن الطابون وكذلك خبز "الكراديش" الممسوح بالسمن البلدي. هنالك ايضاً الحليب والزبدة والحلبة وبيض الدجاج والشنينة واللبن الرايب والحلاوة واللبنة واقراص الجميد وتتصدر المجدرة والمنسف أما طعام القرية فيتصدره منسف البرغل أو الرز و كذلك المجدره اما في العيد فيتم صنع اللزاقيات والمردد والكعكبان وحلوى الراحة. اطفال القرية يتعلمون في اوقات فراغهم ركوب الخيل وصيد العصافير الصغيرة والكبيرة (الدويري والبليقي) ويتعلمون كذلك "المراجدة" بالاحجار الصغيرة ولا ينسوا ابداً تقبيل ايادي الوالدين والاقارب وكبار السن من المعارف. اما في المناسبات والافراح فيحمل الصغار ابريق الماء لغسل الايدي قبل الاكل وبعده ومع الابريق يحملون قطعة من القماش للتنشيف. فتيان القرية يتباهون بتعلم التدخين حيث كانوا يحصلون على التبغ والسجاير من مضافات ابائهم. نشاهد رجال القرية يلبسون غطاء الرأس "الشماغ" باللونين الاحمر والابيض وفوقه العقال الاسود ويضعون الشبرية على زناد معلق على وسطهم. رجال القرية يعملون في كل الفصول بدون راحة، فهم يقومون بحراثة الارض وبذرها بالقمح والعدس والشعير وفي ايام البرد القارس يقومون بتفقد البيدر وهم دوماً ينظرون الى السماء انتظاراً لهطول المطر ليسقي الزرع والضرع. تراهم كذلك يعشبون الحقل في الربيع ثم يعملون في حصاد الزرع و"الدراسة" و"التذراية" ايام الصيف الحارة ثم يخزنون المحصول في اكياس كبيرة بانتظار حضور كبار التجار من المدينة لشراء المحصول سدادا لديونهم و الفوائد التي تدعى "الفايض". في المساء يجلس الرجال في مضافاتهم، حيث الموقد المليء بالحطب، ويقومون بتحميص القهوة وطحنها وغليها في دلال القهوة و"البكارج" النحاسية الصفراء وتراهم وهم يتسامرون ويتحدثون ويتشاورون ويقوم بعضهم بتنظيف وتجليخ شبرياتهم. في المناسبات والافراح يقوم الرجال بذبح الخراف وينصبون بيت الشعر ويضعون البسط و الطراريح والمساند ويقومون بإيقاد "لوكسات" الاضاءة التي تعمل على الكاز.

اما عن نساء القرية فحدث ولا حرج فالمرأة هي الخبازة والطباخة والحلابة والغسالة حيث تقوم بكل الاعمال منذ طلوع الفجر بالاضافة الى مساعدة الرجال في الكثير من اعمالهم. يستيقظن من النوم قبل صلاة الفجر لتسخين الماء والوضوء والصلاة وايقاظ الرجل للاستحمام في زاوية الغرفة حيث يتم تصريف الماء خلال مصرف الى حوش المنزل. خلال كل ذلك تقوم باشعال النار تحت الصاج لخبز العجين الذي تم تحضيره ليلا ثم تقوم بحلب الابقار والاغنام ثم اعداد الطعام للزوج والاولاد مع تحضير الشاي والاكواب التي تضعها على "طباقة" من القش. اما اثناء النهار فالعمل لا ينتهي: جلب الماء من البئر باستخدام الدلو المصنوع من الجلد السميك لوضعه في "الخوابي" في "حاكورة" المنزل...اخراج السجاد والفرش والبسط من ارضية المضافة لنشرها على "سنسلة" من الحجارة...تنقية البرغل والرز من الشوائب و"الزوان"...جمع الخضروات من الحاكورة...ترويب اللبن وخضه بالشكوه لتحضير "الشنينة" والزبدة...تحضير كرات "الجميد" ومرسها...اعداد الطعام الغداء لافراد العائلة وكذلك لاطعام الحصادين والحراثين...غسل الملابس والادوات المنزلية عند نبع الماء حيث السيل الجاري...تحضير العجين بوضع الطحين في المعجن مع الماء والخميرة... التقاط ما تركه الحصادون ورائهم من قش وقمح...جمع روث البقر من الطرقات التي يمر فيها الرعاة ومواشيهم ثم تنشيف الروث ليصبح قرصاً يابساً يستخدم كوقود للطابون. اما في المناسبات والاعياد فتقوم النساء بتحضير القدور الكبيرة المملوئة بالماء لسلق وغلي قطع اللحم ثم غلي الجميد الذي اصبح سائلاً بعد مرسه ثم تحضير المناسف بوضع خبز الشراك في ارضية "السدر" ثم سقيه بشراب الجميد ثم وضع الرز وفوقه قطع اللحم التي يتوسطها رأس الخاروف. وكأن كل ما سبق لا يكفي فعلى النساء ارضاء الرجال ليلاً وعليهن تحمل مشاق الحمل والولادة والرضاعة ورعاية الاطفال حتى يكبرون.

الزواج في القرية له طقوس عميقة الجذور بشكل لا يمكن تجاهله فالعروس عادة ما تكون محجوزة لابن عمها (ابشر هي لك بدون مهر...لا من قدامها ولا من وراها). قبل موعد الزفاف يتم شراء جهاز العروس الذي يتكون عادة من قطع ذهبية وملابس وادوات منزلية وبابور الكاز والفرشات واللحف ولا ننسى هنا هدايا الاخوات والخالات وعباءة العم وعباءة الخال. في اسبوع الزفاف هنالك "التعليلة" التي تبدأ من ليلة الثلاثاء حتى ليلة الخميس حيث يتموضع الرجال في صفين ويبدأون "الدحية" والعزف على الشبابة والمجوز والطبلة والرقص بالسيف مع اغاني الاعراس (عريسنا زين الشباب... عريسنا عنتر عباس). ليلة الخميس هي ليلة حناء العروس حيث يتم تحميمها وتمشيط شعرها ورسم الحناء على اليدين والقدمين. اما في صباح الجمعة فيتم تعطير العروس بالعطور والورد ووضع الكحل في عينيها ثم يلبسونها لباس العرس: الدشداش المطرز والايشارب الملون وعليه تضع "العرجة" التي تحمل "انصاص" ليرات الذهب المجيدي وتزين يديها بالخواتم والاساور الذهبية "تجلاية العروس".

اما بالنسبة للرجل  فهنالك حمام العريس والغناء له من قبل اصدقائه واقاربه من الشباب (شنكليلة شنكليلة...الله يعينه على هالليلة). ظهر يوم الجمعة يتم تقديم طعام الغداء المكون من مناسف على كل منها رأس خروف. يقوم العريس بعد حفل الغداء بحمل صينية يوضع عليها قطع نقدية ينثرها على الصغار.

بعد ذلك يقوم الخال بخلع عبائته ويلبسها للعروس ويقوم الضيوف والاقارب بالسلام على العريس ووالده حيث يقومون بدس النقود في جيبه "النقوط" ويتم الاعلان عن قيمة "النقوط" بصوت جهوري حتى يعلم القاصي والداني "الدنيا قرضة ودين". تبدأ الزفة من بيت العروس الى بيت العريس على الهودج او على عربة مزركشة تجرها خيل مدندشة يتم بعدها توصيل العروسين الى منزلهما حيث تقوم احداهن بوضع قطعة عجين صغيرة على باب المنزل حتى تلتصق العروس بيتها وبعريسها، بينما يقوم اخرون برش الملح الخشن على العريس واصدقائه من الشباب. يدلف العروسان عبر باب منزل الزوجية حيث يتم تجهيز الماء الساخن والصابون والمناشف ويقوم العريس باغلاق الباب من الداخل بينما يقف بعض افراد العائلة خارج المنزل للحراسة ومنع التلصص على العروسين. يتم تنويس البنورة داخل المنزل ويتلامس الزوجان. في الصباح الباكر يراقب الجميع ان الماء قد انساب من زاوية المنزل عبر المصرف الى الخارج كدليل على حصول الخلوة بالشكل الصحيح. في الصباح تدخل والدة العريس ووالدة العروس ومعهن صينية الصباحية المكونة من الزغاليل المحمصة مع البصل واللبن.

هذا ما يتم في الافراح اما في ايام العزاء فيتم اعداد دار للنسوة ودار للرجال حيث تبدأ المراسم بصلاة الجنازة وحفر القبر لدفن الميت وبعدها يتم اعداد طعام الغداء من المناسف وغيرها. وبعد ذلك تأتي "البكارج" والشاي والقهوة للمعزيين، اما اذا كانت الوفاة ناتجة عن حادث معين فهنالك دوماً العطوة وكفيل الدفا وكفيل الوفا.

تمشي في دروب القرية فتستمع لكلمات غريبة عنك، نسيتها على مر الزمان: مقاعد الرجال ملازم، انت ابوها وفصلها، انت يا ولد صقر بين الطيور وسبع بين الاربع، افلح على الميسور، الميسور غانم، "تقهوى"، بعرسك ان شاء الله، عفية ابوي، خوصة، مقرط العصا، الصباح رباح، اصغر منك قالك بع، من كل زق رقعة، لا للسدة ولا للهدة ولا لمصايب الزمان، من طين بلادك لط خدادك، يا مسخمط، ياغبصة يا شينة، تيتي تيتي زي ما رحتي زي ما جيتي.

تجلس على صخرة بجانب الطريق تتأمل معالم القرية فيغلبك النعاس فتقوم وتمشي الى تلة قريبة تتسيدها شجرة باسقة تجلس تحتها ويأخذك النسيم العليل مع زقزقة العصافير وجمال المكان فتغط في نوم عميق. تستيقظ على صوت صبي يمر من جانبك، تتابع الصبي عن بعد فتعرف انه قد تمرد على واقعه وواقع اسرته فبعد ان اتم دراسته في الصفوف الابتدائية الاولى حرمه والده من اكمال تعليمه في المدينة المجاورة حتى يتسنى له مساعدة اخوته في الزراعة والفلاحة. صرخ في وجه ابيه قائلاً: "انا ما بحب الفلاحة، انا بدي اتعلم". غادر الصبي قريته وهو في الثانية عشرة من عمره غادر وهو يلبس الثوب الوحيد الذي يملكه وفي جيبه ملاليم وقروش قليلة. غادر على قدميه الطريتين حاملاً معه قطعة من الخبز "ومطرة" ماء ومشى غير آبه بمخاطر الطريق ووحوش الدروب وخفايا الغيب. استغرقت رحلته يوماً كاملاً حتى تيبست قدماه واحمرت وجنتاه ومر في مراحل عدة ما بين الحلم واليقظة، بين اليأس والامل وبين التمرد والضياع. شاهد في رحلته تلك هضبة الجولان على يمينه وشاهد غابات "ملكا" ووصل الى ام قيس والمخيبة ثم مشى محاذياً لنهر الاردن حتى بحيرة طبريا حيث الحمة. من هناك ركب "الشختورة" الى سمخ  حيث استوقفته امرأة وزوجها وسألاه ان كان جائعاً. احضرت السيدة صينية طعام وانحنت لتضعها امام الصبي الذي شاهد سلسال مذهب يحمل الصليب يتدلى من عنقها. في سمخ اشترى تذكرة قطار بعشرة قروش وجلس في مقاعد الدرجة الثالثة واطلق على القطار اسم جحش السلطان. الخط الحديدي الحجازي هذا يبدأ من استانبول في تركيا ويمر في سوريا والاردن وينتهي في المدينة المنورة في الحجاز. هذا الخط كان له فرع يبدأ من درعا متجهاً الى حيفا مروراً بمدينة سمخ وجسرالمجامع وبيسان وتل الشمام والعفولة ثم حيفا، يقطع فيها المسافة خلال ساعة من الزمن. ها هو الصبي يصل الى حيفا التي كانت حلم حياته ومهوى فؤاده لكثرة ما سمع عنها وها نحن معه نرى محطة قطار المدينة، المحطة الكبيرة ذات الابنية المزينة بأقواس حجرية جميلة. كان هنالك ايضاً مساجد وكنائس، ملاهي وخمارات، دور سينما ومسارح ومستشفى. لم يرى هو في حياته ملاعب وشواطئ مفتوحة واسواق مثل هذه: سوق السمك وسوق اللبن والمطاعم التي تبيع المفتول والمحشي والكباب والمشاوي والحمص البيروتي والفول المصري والفلافل وفطائر الصفيحة والبندورة بالبصل والسندويشات المختلفة التي تباع بخمسة ملاليم. انبهر الفتى، بما شاهده من شوارع تحمل اسماء مثل الملك جورج، اللنبي، يافا، المينا، ستانتون، الراهبات وغيرها. لم يصدق ما شاهدته عيناه من ميادين وساحات مثل ساحة الحسبة وساحة الحناطير وساحة الباصات وساحة ميدان فيصل. لاحظ الفتى ان هنالك احياء منفصلة تحمل اسماء حي الهدار والنبي شعلان وحي عباس والزوراء وغيرها. شاهد بنايات كبرى مثل بناية المطاحن ومبنى شركة سوليل بونيه ومبنى محطة شركة ايجد وبناية عزيز الخياط. في حيفا عاش الفتى في كنف أحد معارفه "ابو خليل" وزوجته حيث عمل سلالاً ثم عربجياً ثم اجيراً ثم شريكاً ثم تاجراً يتاجر بالزيتون والعنب والحمضيات وخاصة البرتقال اليافاوي الشهير كما تاجر ايضاً بالقمح والشعير والعدس والبامية والملوخية. تعرف من خلال كل ذلك الى محلات الخضار والفواكه حيث رطل البندورة بقرش ورطل البرتقال بقرشين. تعامل الفتى مع محلات "المانيفاتورة" ومحلات بيع اللوكسات والفروات والخواتم والخراخيش و"البنانير"و"الهيشة" و"التتن" وسجاير الثلاث خمسات. زار مقاهي السنترال وسلامة حيث الشاي والقهوة والكازوز البارد ومحلات الحلويات حيث العجوة والهريسة والكنافة والكلاج والعوامة. كان اهم ما لاحظه في حيفا ميناؤها ومصفاة البترول فيها حيث يصل البترول المحمول بالانابيب من العراق. الجبال الشاهقة مثل جبال الكامل تطل على الميناء وتحتها تقع اودية عميقة مثل وادي الصليب. كانت حيفا مدينة ناشئة متطورة يتحكم فيها الانجليز واليهود بفعل الكثير من العوامل السياسية والاقتصادية السائدة في تلك الاوقات وكانت المستعمرات اليهودية تحيط بحيفا وتحمل اسماء مثل كفارحنا، كريات حاييم، عتليت، الباجور وغيرها. كان الفتى عصامياً بنى واقعه ومستقبله بعرق جبينه وتشقق اقدامه واحمرار عينيه. حيفا كانت بالنسبة له مرتع الشباب حيث بنى نفسه ورفع من شأنه وشأن اسرته فالتحق به اخوته واقاربه. في حيفا شكل الفتى جمعية تجمع الحوارنة وترعى شؤونهم ولم ينسى زملائه العمال الاخرين الذين كانوا يسكنون في الطوابق السفلية من البنايات القديمة او في بيوت مبنية من الصفيح فكان يزورهم ويأخذ لهم الطعام. وقع الفتى في حب فتاة جميلة من حيفا ولكنه عندما اراد الزواج تزوج من قريبة له في قريته. عاش الفتى في حيفا كل معاناته وافراحه فعشق حيفا وسبح في بحرها وتنزه في جبالها وشواطئها. عاصر يوماً بيوم مراحل تطور القضية الفلسطينية وتابع ثورات البراق والخليل وصفد والقدس وحيفا ويافا وعكا وكان خلال ذلك  يستمع من خلال المذياع الى اذاعة صوت القاهرة من مصر وصوت الاذاعة الفلسطينية من القدس وصوت اذاعة الحرب الالمانية من برلين وصوت اذاعة الشرق الادنى من لندن. شاهد كذلك بأم عينيه التحام الشعبين الاردني والفلسطيني في الدفاع عن ارض فلسطين التي عاش فيها فرفض التعصب الديني والعرقي وشاهد المشروع الصهيوني وهو يتطور ويتحقق فقاوم ومعه كل الشرفاء حيث استشهد منهم الكثير "اخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدى" "اخي ان جرى في ثراها دمي واطبقت فوق حصاها اليدا".

 من الذين قاوموا كان هنالك محمد الحنيطي الذي تقدم باستقالته من الجيش العربي الاردني فسأله جلوب باشا: "انت اردني يا محمد بيك، مالك ومال فلسطين؟" أجاب الحنيطي قائلا: "انتم من رسمتم حدود هذه البلاد، قبلكم ما كانت فلسطين ولا كانت الاردن ولا كانت سوريا ولا لبنان". استشهد محمد الحنيطي في فلسطين دفاعاً عن حيفا فأحضروا جثمانه عبر الجسر مروراً بطلعة المصدار حيث تم دفنه في قرية ابو علندا. تلكم كانت رواية "من حوران الى حيفا"، قصة قرية حريما وسكانها من الزعبية واقاربهم في مدينة سمخ وسيرين والناصرة. اما فتى القرية فهو المرحوم بإذنه تعالى، محمد الزعبي والد الزميل الدكتور زياد الزعبي طبيب جراحة العظام المتميز، الذي كتب الرواية. سرد الدكتور زياد الزعبي كل ذلك من خلال قلم رشيق يمتلك ادوات الادب وصور لنا حياة المجتمعين الفلسطيني والاردني بعاداتهما وتقاليدهما وترابطهما باسلوب سلس وجذاب.

بعد سقوط المدن الفلسطينية الواحدة تلو الاخرى نظر محمد الزعبي وهو يركب السفينة الاخيرة من ميناء حيفا، نظر خلفه وفرت الدموع من عينيه فقد عشق حيفا ودافع عنها بروحه. اما بالنسبة لي فالدموع تفر من عيني كلما قرأت صفحة من الكتاب.

اخي زياد سلمت يداك ورحم الله والديك.

جميع الحقوق محفوظة © الحقيقة الدولية للدراسات والبحوث 2005-2023