يقول
المتقاعد: كنّا زميلَي دراسة في الجامعة، تخرجنا معاً، أنا في طليعة الدفعة وهو في
ذيلها، والتقينا صدفة بعد نصف قرن، وبالكاد تعارفنا، هو بادي النعمة، طاووس على
شكل أدمي، ذكّرني بسيّد حمدان في قصة الإيراني، وأنا أضيع وسط القطيع. وبعد
المجاملات طلب أن أوجز له مسار حياتي، فقلت: خدمتُ ربع قرن معلماً وأمين مكتبة
ومدير مدرسة ومشرفاً تربوياً ورئيساً للإشراف...... وحصلتُ على الدرجة الأولى،
وكنت أنتظر الدرجة الخاصة والمناصب المرموقة!!! لكنّني كنت قد كافحت وأكملت دراستي
العليا، فوجدت لديّ القدرة والرغبة أن أخدم أبناء الوطن في الجامعة، فأمضيت ربع
قرن آخر في جامعات الشمال والوسط والغرب، أُربّي وأُعلّم طلّابي كأنهم أبنائي.
قال: يعني تقاعدت من وزارة التربية. وماذا عن راتبك التقاعدي؟ قلت: خدمتُ ردحاً من
الزمن محروماً منه لأنه لا يجوز الجمع بين راتبين. تظاهر بأنه تعاطف معي فقال: هذا
غريب! أنت خدمت هناك وراتب التقاعد حقّك، وتخدم الآن هنا وراتب الجامعة حقّك كذلك،
فلمَ يغصبونك حقّك؟! قلت: هذا حكم الحكماء ولا اعتراض لي عليه، ثمّ إنهم سمحوا
للمتقاعد بعد حين من الدهر أنْ يحصل على جزء من حقّه في راتبه. لكنّهم عادوا بعد
حين فحجبوا عنه جزءاً جديداً من هذا الجزء القديم! قال: يا أخي، لقد أرهقتْني
أجزاؤك هذه. كم راتبك التقاعديّ الآن؟ قلت مائة وعشرون ديناراً بالتمام والكمال،
يُقتطع منها لوازم التأمين وأمور أخرى. قال: تزوجت طبعاً؟ قلت: نعم. قال:
والأولاد؟ قلت: خمسة، علمتهم، منهم المعلم والمحامي والمهندس، بعضهم عاطل عن
العمل، وبعضهم شبه عاطل لأنه موظف بأربعمائة دينار، وأنا ما زلت مسؤولاً عنهم
أعيلهم وأصرف عليهم وعلى أولادهم، وأعين بعض أهلي ممّن لهم حقّ علي، وأقترض من هنا
وهناك لأنهض بواجبي. ثمّ لماذا لم تخبرني عن أحوالك أنت؟ قال: عملتُ في مؤسسة
يديرها خالي بعد التخرّج مباشرة، ثمّ انتقل خالي لإدارة مؤسسته الخاصة، لكنني
ظللتُ تحت عين رعايته. وبمساعدته ومساعدة بعض الأعمام والأصهار، اعتليت رئاسة
المؤسسة بعد بضع سنين، وفتحها الله عليّ: رواتب عالية، ورحلات، وبدَلات،
وانتدابات، وعضويات مجالس، وهيئات، وعلاقات........ إلخ. قلت: سبحان الفتّاح الوهّاب!!
فالتفت إليّ وقال: دكتور وأولاد وأحفاد وأهل وراتب تقاعديّ مقداره 120 ديناراً،
وكنت تعمل معلماً في المدارس، والآن ارتقيت لتعمل معلماً في الجامعات؟؟؟!!! قلت:
هذا قدري. (ورفع بعضكم فوق بعض درجات)، وأنا أؤمن برسالتي المقدسة ومهنتي الشريفة.
ثمّ يجب أن يتوافر نظر عند أمثالي، فكيف يجوز لنا أن ننافس أمثالك؟! الأموال
محدودة، ويجب أن نتحلى نحن بالقناعة كي لا ننغّص عليكم أنتم والمؤسسات والهيئات
وأبناء الذوات بذخ العيش وترف الحياة!!! ولا تنسَ أنَّ بعض علية القوم في بعض
الجامعات كانوا يعملون ليلاً نهاراً خلال جائحة كورونا، يتمترسون في الخنادق على
الثغور في الحرّ والزمهرير، لمواجهة الفيروس اللعين، لا وقت لديهم حتى للردّ على
مناشدات المظلومين، لأنهم غارقون مشغولون في اقتسام غنائم المنح والمكافآت، فيجب
أن نرضى بنصيبنا ولا نشوّش على وطنيتهم الطافحة وشرفهم الثمين، فقد رضينا
بالإيثار، وتشبثتم أنتم بالأثَرَةِ. قال: لم أفهم قصدك. قلت: هذا طبيعيّ فاسأل
لسان العرب. قال: ولكنّي سمعت أن "عريضة" طويلة عريضة وقّع عليها حشد
كبير ممّن تحاكي حالتهم حالتك تطالب بالتكرّم عليهم لإعادة بعض حقوقهم، فهل وقّعت
معهم؟ قلت: تلك "صحيفة المناشدة"، أنا لم أوقّع عليها، ولن أفعل؛ لأنَّ
بعض متزعميها صدّعوا رؤوسنا تغنيّاً بحبّ الأوطان، والتحايا الموزّعة بالمجّان،
حتى إذا مسَّ الوطن الطرف الشّرود الأقصى مِن (حقوقهم!!) ملأوا الدنيا صراخاً،
وقادوا المشهد، وتقيأوا مناشدات. وأنا أؤمن أنّ أساتذة الجامعات هم قادة التنوير
في المجتمعات، وينبغي أنْ يكونوا قدوة في المنهج السويّ القانويّ المؤسسيّ عند
المطالبات، لا أنْ يلجأوا إلى أسلوب العرائض التي لا تليق بهم، أو بهذا
الزمان...... قال: ولكنّي أراك أنت تعيش خارج الزمان!! هل قرأت مسرحية لكلّ مجتهد
نصيب لتوفيق الحكيم؟ قلت: نعم في فجر الشباب، ويسرّني أنّك تقرأ. قال: أنا أقرأ
لأتعلّم، ولا أقرأ مثلك لأعلّم، اقرأها مجدداً، واستفد من شخصية شعبان أفندي فيها.
قلت: أنا أعرف جيداً شخصية شعبان، لكنّي لن أغيّر مبادئي واستقامتي كما فعل.
أشعل
صاحبنا السيجار، فاشتممت رائحة كاسترو و(آل غيفار)، وقال: يبدو أنّنا التقينا،
لكننا لم نلتقِ. وسرعان ما أثارت سيارته عاصفة الخُيلاء والاستعراض في المكان،
ومضت بعيداً بعيدا.....
"
وسرتُ وحدي شريداً..... محطّم الخطوات....... تهزّني أنفاسي....... تخيفني
لفتاتي....... بعضي يمزّق بعضي يمزّق بعضي...كهارب ليس يدري من أين أو أين يمضي!!!".
لكنّ
فتىً يعرُبياً يمنياً مقنّعاً كِندياً هتف بي مِن أعالي تهامة:
يعاتبني
في الدَّين قومي وإنما ديونيَ في
أشـــــياءَ تُكسبهم حمدا
أسدّ
بها ما قد أخلّوا وضيّعوا ثغور حقوقٍ ما
أطاقوا لها سدّا
إذا
أكلوا لحمي وَفَرتُ لحومهم وإن
هدموا مجـــدي بنيت لهم مجدا
ولا
أحمل الحقد القديم عليهمُ وليس
"عزيز" القوم مَن يحمل الحقدا