بدأنا نسمع منذ عدّة سنوات عن تصنيفات عالميّة للجامعات، مثل:
(التايمز وشنغهاي وQS...إلخ) وغيرها.
وقد أخذت جامعاتنا تهتم بهذه التصنيفات، وتسعى كلٌّ منها إلى أنْ يكون
لها فيها مكانة ومكان.
ولسنا هنا بصدد التعمّق في دراسة هذه التصنيفات، واستعراض عناصر
التقويم فيها، والتثبّت من دقّة نتائجها، والتأكد من مستوى موضوعيتها وشفافيتها،
وإجراء مقارنة بينها لتفهّم لمَ تختلف نتيجة الجامعة نفسها من تصنيف إلى آخر...إلخ.
نقول: لسنا الآن بصدد كلّ هذا وكثيرٍ غيره، فقد يكون لنا في هذا الموضوع وقفات قادمة.
لكننا هنا في بداية تطرّقنا إلى هذه القضية وإشكالاتها، نريد تأكيد
حقيقتين تكونان منصّة الانطلاق لأيّ حديث لاحق.
1.مُخطئٌ ألف مرّة مَن يُقلّل من شأن أيّ إنجاز وطني في جامعاتنا،
فنحن جميعاً شركاء دون استثناء في المغنم والمغرم، النجاح للجميع, والفشل كذلك،
والنتيجة النهائية تعود حُكماً إلى الوطن, وهو للجميع، والنفوس السويّة تنحاز
حتماً للمؤسسة الوطنية الناجحة.
وقد طالت معاناتنا مع الشعور بتأخرنا عن مواكبة الركب العالميّ، وغياب
جامعاتنا العربية والأردنية عن ساحات التصنيفات العالميّة أيّاً كان مستوى
مصداقيتها، فمن الخير أنْ نبقى شهوداً في أيّ محفل عالميّ، وأن يكون لوطننا ذكرٌ
حميد بين الأمم في كلّ شأن، وهو بذلك حقيق.
وَلَكَمْ كنّا نتألم عندما تظهر نتائج هذه التصنيفات، فنشهد لجامعات
دول صغيرة ذِكراً مشهوراً وحضوراً حيّاً، بينما جامعاتنا العربية تتوارى عن
المشهد، وتغيب عن الترتيب!
وغمرنا الفرح عندما بدأت تظهر في القوائم أسماء جامعات عربية، وسعدنا
أكثر بظهور أسماء بعض جامعاتنا الأردنية.
ومع إدراكنا أنّ العدد قليل، ودون المأمول، إلّا أننا نُسلّي النفوس بالتأسّي،
ونزرع الثقة بأننا لسنا أقلّ من غيرنا، وأنّ هذا المضمار قد انفتح أمامنا، وأنّ
بعض الجياد السابقات من خيل أهلنا، وأنّ هذا الميدان إنْ كان فرسانه من الكُرماء،
فنحن معهم، ننهج منهجهم، ونتشبّه بهم:
فتشبّهوا إنْ لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبّه بالكرام فلاحُ.
2.لكننا في المقابل، لا نريد أنْ يكون هذا الأمر أكبر همّنا، وأنْ
يصبح شغلنا الشاغل، فيتمّ الضغط على المدرسين، وتحميلهم أعباء فوق طاقاتهم،
وإرهاقهم بطلب نشر أبحاثهم في مجلات عالميّة نادرة، دون أنْ تُوفَّر لهم البيئة
الوظيفيّة والإنسانيّة والإداريّة الطبيعيّة على الأقل، والبنية التحتيّة
الضرورية، والظروف المساندة، والوسائل المساعدة التي تُسعفهم لتحقيق ذلك، فيكون
حالهم كما قيل:
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له إياك إياك أنْ تبتلَّ بالماءِ.
ولا نريد أنْ يدور المدرسون مرغمين تحت حجر الرحى، بينما المؤسسة
تستثمر الصوت الصاخب الصادر لتضخيمه إعلاميّاً، فيظهر على هيئة إنجازات قد تكون
شكليّة أو وهميّة أو سلبيّة من الناحية الإنسانيّة أو الإنتاجيّة، فتكثر الجعجعة
ويقلّ الطحين.
ولا نريد أيضاً أنْ تبطش بنا نشوة الإعلام فنَغفل عن النظر الصائب
للأمر، والحُكم الصادق على النتائج، فتتسع الفجوة بين الواقع والأحلام، وينصبّ
الجهد على مطاردة ترتيب الأرقام، فنظهر وكأننا نتقافز على أعلى درجات السُلّم،
بينما درجاته الأساسية قد اهترأت ونخرتها الأَرَضة، فنكون كالمُنبتّ لا أرضاً قطع،
ولا ظهراً أبقى، فننقطعُ عن الأساس الصلب السليم، ونعلق بالهواء، فيخفُّ وزننا،
ويسهل سقوطنا.
الرؤساء العِظام الأوائل لجامعتنا الأردنية، رحم الله من مات منهم,
وأطال عمر الحيّ بالصحة والطاعة، مثل: (ناصر الدين الأسد، وعبد الكريم خليفة، وعبد
السلام المجالي، وإسحاق الفرحان، ومحمود السمرة.....إلخ) ما كان يعنيهم الإعلام
قدر ما كان يعنيهم تأسيس جامعة تكون منارة علم وهدى، ومدرجة نشءٍ واعد، فخلُدت
آثارهم في معارج الفخار والعُلى.
ومحمد عدنان البخيت سنديانة التاريخ المجيد، ما كاد يُكمل تأسيس جامعة
مؤتة، ويزرع أرض الشهادة شجراً مباركاً وعِلماً، حتى دعاه الواجب إلى صحراء
المفرق، فحوّلها في بضع سنين إلى دوحة وارفة الظلال، وصرحٍ عربيّ الوجه واليد
واللسان، دون أنْ يكون معنيّاً بأنْ تلاحقه آلة تصوير، فقد ترك الحُكم الصادق عليه
لما تركه خلفه من أثرٍ ظاهرٍ للعَيان على مدى الزمان.
وكأنّ أحمد شوقي كان يعنيه حين قال:
وكـُن رجـلاً إنْ أَتَـوْا بعدَهُ
يقــولون: مَرَّ وهذا الأثــر.
أمّا الآن، فإنّ أكثر ما نخشاه، ونأمل ألّا يكون، هو أنْ نوجّه كلَّ
جهودنا إلى سراب الأرقام, وفقاعات الإعلام، وتضخيم الأسماء، فيسمن الورم, ويكمن
الداء، ويصدق فينا قول ابن عمّار:
ممّا يُزهّدني في أرضِ أندلــسٍ أســـــماء مُعتضِدٍ فيــها
ومُعتـمِدِ
أسماء مملكةٍ في غير موضعها كالهِرِّ يحكي انتفاخاً صَولة
الأسدِ.