القسم : بوابة الحقيقة
ترميم الشخصية وإعادة بنائها بين الواقع والخيال
نشر بتاريخ : 12/5/2020 1:07:35 PM
د. رهام زهير المومني

بقلم: د. رهام المومني

 

 استوقفني تعليق من متابع لحلقة تلفزية خرجتُ فيها على الهواء مباشرة،  كنت قد تحدثت فيها عن الآثار السلبية المؤثرة في شخصية الفرد من جراء جائحة كورونا وما هي الحلول والمقترحات لإعادة بنائها والخروج بأقل الخسائر على موقع القناة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، بعبارة (بدنا ترميم لجيبتنا بترمم شخصيتنا، هاتي معك كم ألف وبشتري شخصية جديدة، بدنا نشتغل وشخصيتنا بتعمل لحالها ريستارت) وغيرها من التعليقات التي ربطت ترميم وإعادة بناء الشخصية بالوضع المادي الهزيل والظرف القاسي الذي يعيشه الأفراد في المجتمع.

 

تخيل نفسك بالبيت وترغب في أن تعمل ترميم وصيانة تدفئة ومواسير وحمامات وألوان وحديقة وغيره الكثير، وهذا صعب ومجهد جدا لك ولأفراد أسرتك، لوجود العفش واستخدام المنزل بشكل يومي من مبيت، إستقبال، إسترخاء، تناول الوجبات، دراسة الأولاد، ممارسة الأعمال اليومية، هل ستشعر بالراحة وتمارس حياتك بشكل اعتيادي؟ أم تنتظر لحين الإنتهاء من أعمال الترميم والصيانة الضرورية التي تجعل المنزل صالحًا للسكن والاستقبال؟

 

هنا يلعب الوضع المادي دورًا بسيطًا، فإذا افترضنا أن الوضع المادي لصاحب المنزل جيد، يستطيع أن يتركه ويستأجر منزلًا آخر هو وعائلته لحين الإنتهاء، وسيشعرون بشعور غريب لعدم تأقلمهم مع البيئة الجديدة المؤقتة التي انتقلوا إليها، وشعور خفي بعدم الراحة أو اللاشعور بشيء، سيعمل على منعهم بممارسة الروتين والرتابة التي اعتادوا عليها بحياتهم، الأمر الذي يؤدي إلى انتظار مدة من الزمن للعودة إلى المنزل، يضاف إليها مدة أخرى لإعادة التأقلم.

 

وإذا افترضنا أن الوضع المادي لا يسمح بذلك، سيعيشون تحت ضغط عمل وضوضاء مع تغيير نظام الحياة والروتين والرتابة التي اعتادوا عليها.

 

وفي الحالتين بحاجة إلى (إمكانات مادية، بشرية، بيئة مساندة داخلية وخارجية) فالإمكانات المادية هي المقدرة المالية، والإمكانات البشرية هم العمال الذين سينجزون العمل، أما البيئة المساندة الداخلية هم أفراد الأسرة وتعاونهم في تحمل مشاق الترميم، والخارجية هي وقت العمل وهل يسمح له بمتابعة متطلبات إكمال الصيانة، وتحمل الجيران للإزعاج وتقبل الأصدقاء  الانقطاع المؤقت، وغيرها الكثير.. وفي الحالتين تقود إلى النتيجة نفسها ويتم تحقيق الهدف، فعملية الترميم ستنجح بمستويات مختلفة بناءً على مواصفات الإمكانات بكافة أنواعها التي سُخرت لإتمام العملية.

 

أما إعادة بناء المنزل فسيكون أسهل، هنا المنزل يُفرغ من محتواه ويُهدم ليُعاد بناؤه من جديد، وهنا لا يُقبل بديلان؛ البديل الأول والأمثل والوحيد هو الخروج من المنزل وإستئجار آخر، وهنا الوضع المادي يجب أن يكون ملائما أكثر من عملية الترميم، لأن العقل الباطني لأفراد الأسرة سيتقبل فكرة الانتقال المؤقت ويعمل على تقليل الضغوط، لاعتقادهم أن المنزل جديد، وعندما تكون بعيدًا، يقّل العبء والتوتر والإزعاج، ويتقمّص الشخص حالة جديدة باعتبارها ولادة جديدة، حياة جديدة، مستقبل جديد، لأن العقل تأقلم على فكرة التغيير المرهون بالمدة والنتيجة.

 

وهل سيقود الترميم المادي إلى الترميم المعنوي أو النفسي إذا كان هناك وجه شبه بينهما؟ أم أن الموازنة غير عادلة؟ فكم من عائلة تعيش في بيوت شعر وفي الصحراء وتتمتع بروح معنوية عالية أكثر من عائلات تعيش في القصور، وكم كمية الطاقة الإيجابية التي تحصل عليها عندما تجلس معهم وكلهم أمل ونظرة تفاؤل بالحياة، وكم حجم الكرم الذي يقدمونه لضيف لا يعرفونه فكيف إذا كان قريبا أيضا.

 

وقبل الحديث عن الترميم النفساني دعونا نبحث عن أسباب تردي وانهيار الحالة النفسانية لعامة الناس، فظهور الجائحة وما رافقها من إشاعات ومعلومات وتخبط حكومي في التعامل معها، أدى إلى تردي الحالة النفسانية وإنهيار تام في منظومة الشخصية، ودليل ذلك واضح من ازدياد حالات الانتحار والتفكك الأسري واللجوء إلى النكتة والتندر للتنفيس عن النفس.

 

نحن بحاجة إلى إعادة بناء الثقة من جديد، وخلق شعور لدى المواطن بأن إمكانات الدولة مسخرة لخدمته، وهذا يتطلب عمل برامج توعية شاملة وتكثيف البرامج المبنية على استراتيجيات مدروسة تحث على أهمية صحة النفس، ومساعدتهم للعودة إلى الحياة الطبيعية بشكل تدريجي، وتقديم الدعم النفساني والمعنوي والمادي، وخلق نوع من العدالة الاجتماعية بين فئات المجتمع.

 

فمن يجد في نفسه القدرة على تحمل مصاعب الحياة وترميم ما دمرته جائحة الكورونا ليبدأ بنفسه، وليكون عونا لغيره، فكلفة ترميم الشخصية تحتاج إلى جهد أكبر من إعادة بنائها، وإعادة البناء تحتاج الى إمكانات أكبر، فلا يوجد أسلوب أمثل لنعممه، لأن الشخصيات تتصف بالمرونة والتنوع، وتختلف قدرتها في التكيف والتأقلم في مواجهة المتاعب، فكلاهما ممكن، ويحتاج إلى ترميم الجيوب بالدنانير أولا.

جميع الحقوق محفوظة © الحقيقة الدولية للدراسات والبحوث 2005-2023