محمد خروب
تراجعت نبرة التهديدات «النارِّية» التي اطلقها اردوغان ورئيس وزرائه يلدرم, في شأن «الانتقام» الذي ستقوم به أنقرة من «النظام» السوري, بعد سقوط ثلاثة جنود أتراك واصابة سبعة آخرين, جرّاء ما قيل انها غارة جوية سورية, ضد قطعات من الجيش التركي, اقتربت كثيراً من مدينة الباب , مُستخدِمة عناصر الجيش السوري الحرّ، للسيطرة على تلك المدينة الاستراتيجية, والتي ما تزال حتى اللحظة في قبضة تنظيم داعش الارهابي، ومعروف ان تركيا غير معنية بمحاربة داعش الذي اثبت ولاءه لها وخضوعه لأوامرها، منذ ان بدأ التدخل التركي في الشمال السوري تحت اسم «درع الفرات»، ولم يخضْ الأتراك ولا من تساندهم, اي معركة حقيقية في أي بلدة او قرية كانت تحت سيطرة داعش, بل قام الاخير بالانسحاب منها دون ان يطلق طلقة واحدة, ما اثار الريبة والاستغراب بعد «تَوَعُّد» داعش, انها ستكون مقبرة لمن يحاول اقتحامها او الاقتراب منها، فإذا بها احبولات وتهديدات فارغة, كان القصد منها منح قوات الغزو الذرائع, ولم يكن سقوط «جرابلس» وخصوصاً «دابق»، سوى الدليل الفاضح على ان تنسيقاً كاملاً قائم بين الطرفين, ما كان لداعش ان يبقى في تلك المنطقة, لولا الدعم التسليحي واللوجستي، الذي قدمه الرعاة الأتراك لهذا التنظيم المتوحش.
همروجة الغارة السورية، والتذرُّع بها للاحتكاك بالجيش السوري، يبدو انها داعبت اذهان المسؤولين الأتراك، بعد ان «اكتشفوا» ان احتلال مدينة الباب لن يكون نزهة, او يتم تجاهل ما يستبطنه وجود الجيش التركي على بعد كيلومترات معدودات من حلب, التي توشك احياؤها الشرقية العودة الى حضن الدولة الشرعية، بعد ان تم توجيه ضربات قاصمة لمجامع الارهابيين الذين يتخذون من المدنيين دروعاً بشرية, لتأجيل هزيمتهم وانكفاء المشروع العثماني الذي تعهدوا تنفيذه للسلطان اردوغان، ولن تُخفي تصريحات الرئيس التركي «العنترية» من ان جيشه (بعد «تحرير» الباب ومنبج) سيتجه فوراً الى الرقة لتحريرها هي الأخرى من داعش، وهو يعلم في قرارة نفسه, ان شيئاً من هذا السيناريو الخيالي لن يحدث، لأنه ممنوع عليه ومحظور ان يكون مُقرِّراً في مستقبل سوريا, بعد ان تغيّرَت موازين القوى في شكل جذري، وبعد ان أُجبِر رعاة الارهاب على التراجع, ولم يعد سوى بضع دول, ما تزال تتمسك بوهم اسقاط الدولة السورية والرهان على مجاميع الارهابيين الآخذين في التقلص والانهيار, والاستعداد للهرب في أي وقت يسمح بذلك.
لهذا.. لم تكن المكالمتان اللتان جرتا بين الرئيس الروسي والتركي في خلال اربع وعشرين ساعة, سوى إشارة بأنه تم لجم الاندفاعة التركية, الرامية الى الاحتكاك بالجيش السوري, بهدف صرف انتباهه وإشغاله عن معركة حلب الحاسمة الجارية الآن، والتي تُوِّجّت يوم أمس باستعادة أكبر احياء حلب الشرقية» مساكن هنانو» والمنطقة المحيطة به، والكفيلة بـ (شقّ) شرقي المدينة الى قسمين, يَسهُل لاحقاً الإجهاز عليهما واستعادتهما من براثن الارهابيين,ورغم ان المسألة محسومة عسكرِّياً, الاّ انها ستأخذ وقتاً بسبب وجود المدنيين في تلك الأحياء المنكوبة.
زيارة جاويش اوغلو وزير الخارجية التركي المفاجِئة... لطهران، عكست الحذَر التركي, الذي بدا واضحاً بعد تراجع حِدة التهديدات بتدفيع دمشق «ثمن» سقوط هذا العدد من قتلى وجرحى الجيش التركي، قرب مدينة الباب، وبخاصة ان دمشق التزمت «الصمت» حيال «العنتريات» التركية, على نحو تم تفسيره, بأنه رغبة منها بأن «تَفْهَمَ» انقرة ما تريده وتستنتج ما تشاء، بمعنى انها مُستعِدَّة لكل الاحتمالات، فضلاً عما رشح بأن تنسيقاً وتفاهماً قد تما بين الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري (PYD) في شأن معركة الباب المُنتظَرَة وكيفية مواجهة الجيش التركي ومن تقف خلفه في حال مضوا قُدُماً في الاقتراب من الباب، ناهيك عن «الدور» الذي بدأت تلعبه قوات المقاومة العربية الكردية الأرمنية وشرائح اخرى في تلك المنطقة، دفاعاً عن الباب وما بعد بعد... الباب.
فرملة الاندفاعة التركية نحو مدينة الباب التي بدت واضحة, وبخاصة بعد ما وُصف بغارة الطائرة السورية على وحدات من الجيش التركي، يشي بأن «المشروع» التركي في إقامة منطقة آمنة في الشمال السوري قد أخذ يتبدّد او بات في مرحلة التجميد، نظراً للخطورة الشديدة التي تنظر بها الى هذا السيناريو الأخطر منذ عودة الدفء الى العلاقات الروسية التركية، كل من دمشق وطهران وموسكو، في الوقت الذي تحتدم فيه معركة تحرير احياء حلب الشرقية, وفي وقت يرقب الجميع باهتمام ما تنطوي عليه التعيينات التي يقوم بها الرئيس الاميركي المُنتخب, لمرافقته الى البيت الابيض بعد شهر ونصف من الآن، اضافة بالطبع الى ما يحدث في الموصل والاحتمالات الماثلة لتحرير هذه المدينة قبل نهاية العام, ما يفتح فضاءات المنطقة على سيناريوهات جديدة ومختلفة قد يكون في بعضها وصول قوات الحشد الشعبي الى الرقة وربما دير الزور وحلب، الأمر الذي يستوجب»تُرْكِيّاً» التريث واعادة قراءة الملفات، وهو أمر نحسب ان انقرة قد بدأت تأخذه في الاعتبار, رغم ضجيج التصريحات وصخب الخطابات, التي ما تزال تُطلَق من قِبَلِ رئيسها وأركان... حُكومتِه.
عن الرأي