نشر بتاريخ :
27/08/2025
توقيت عمان - القدس
8:36:34 PM
الحقيقة
الدولية- غزة - لم تكن أم ليلى تتوقع أن يصبح توفير جرعة أنسولين لطفلتها معركة
يومية. الطفلة، ذات الثماني سنوات، توقفت عنها جرعات العلاج المنتظم منذ أسابيع
بسبب نفاد الدواء من صيدليات غزة.
تقول الأم وهي
تحاول إخفاء قلقها: “أخشى أن ينهار سكرها فجأة في الطريق إلى المستشفى. آخر مرة
نقلناها كانت في حالة إغماء، وحتى حين وصلنا، لم يكن هناك ما يكفي من الأنسولين
لتأمين العلاج العاجل”.
هذه المعاناة
ليست حالة فردية، بل تتكرر بين آلاف المرضى في القطاع، من أطفال السكري إلى مرضى
الصرع والضغط والقلب والجرحى الذين يبحثون عن مسكن يخفف آلامهم بلا جدوى.
ويعيش قطاع غزة
واحدة من أخطر الأزمات الطبية في تاريخه، مع قرب إتمام حرب الإبادة الجماعية عامها
الثاني، حيث يؤكد صيادلة وأطباء أن نحو 80% من الأدوية الأساسية باتت غير متوفرة.
الصيدلي ذو
الفقار سويرجو أوضح أن مستودعات الأدوية في قطاع غزة فرغت تمامًا بفعل الحظر
الإسرائيلي المتعمد على دخول الأدوية والمستهلكات الطبية.
ويقول: “غزة
استنفدت كل مخزونها الدوائي، ولم يعد أمام المرضى سوى الأكامول، وهو أيضًا في
طريقه إلى النفاد”، مبينا أن مرضى الضغط والسكري وأمراض المناعة والغدة الدرقية
باتوا يواجهون مصيرًا قاسيًا، “إما المعاناة أو الموت”.
ومنذ أشهر تطلق
وزارة الصحة في غزة تحذيرات من أن النقص الحاد في الأدوية والمستهلكات الطبية وصل
إلى مستويات حرجة تهدد حياة آلاف المرضى، حيث وصلت نسب النفاد في أصناف رئيسية من
الأدوية الأساسية إلى صفر، إلى جانب النقص الحاد في مستلزمات غرف العمليات
والوحدات العلاجية، ومخزون بنوك الدم وشرائح مختبرية أساسية.
وتشدد منظمة
الصحة العالمية، على القطاع الصحي في غزة في أزمة عميق، نتيجة الهجمات المتكررة
على البنية الصحية، وانقطاع الطاقة ونقص الوقود الذي يعطل تشغيل أجهزة التنفس وغرف
العمليات ويزيد من خطورة إدارة الإصابات والولادات والمرضى المزمنين، مشيرة إلى أن
الفرصة لإنقاذ حياة أعداد كبيرة من المرضى تتضاءل كل يوم مع نقص الدواء.
وتقول منظمة
أطباء بلا حدود، إن “الأدوية الحرجة على وشك النفاد”، وأن فرقها اضطرت إلى تقنين
الأدوية المسكنة ومواد التخدير ومضادات التهاب للأطفال، وأن بعض العيادات اضطرت
لترك حالات دون علاج مناسب أو تحويلها لطرق أقل فعالية بسبب ندرة المستحضرات
الضرورية.
كما وثقت تقارير
المنظمة زيادة في حالات العدوى بعد الجروح وارتفاع الحاجة للمضادات الحيوية غير
المتوفرة.
ويروي الشاب
محمد الشافعي (35 عامًا) من مخيم النصيرات أن حالة والده المصاب بمرض القلب تضاعفت
بشكل خطير بعد أن نفدت أدويته منذ أسابيع، واضطر إلى إدخاله المستشفى الميداني
مرات متكررة دون جدوى.
وقال بصوت يختنق
بالبكاء: “كان والدي يعتمد على دواء للضغط والسيولة بشكل يومي، واليوم لا نجد منه
أي حبة، الأطباء يحذروننا من أن توقف العلاج قد يؤدي إلى جلطة قاتلة في أي لحظة”.
أكشاك دوائية
ويحاول المرضى
عبثاً البحث عن الأدوية في أماكن النزوح المكتظة والمثقلة بالآلام والمعاناة، عند
مئات الأكشاك الدوائية.
ويقول الصيدلي
عمر بدر، صاحب إحدى الصيدليات المدمرة في خان يونس، “كل فروعنا دمرت بالقصف، وما
نعرضه في هذا الكشك العلاج هو ما استطعنا إنقاذه من تحت الركام أو خزنّاه
بمستودعات منزلية صغيرة”.
ويضيف: “منذ
أكتوبر 2023 لم تدخل أي شحنة دوائية إلى القطاع الخاص، وأكثر من 80% من الأصناف
الأساسية غير متوفرة، خاصة مستلزمات الأطفال والحليب والمطاعيم”.
ويدرك بدر أن
البيئة المحيطة لا تصلح لتخزين العديد من الأصناف الدوائية المتوفرة أو جميعها
بسبب الغبار وارتفاع درجات الحرارة، والرطوبة العالية التي تؤثر على فعالية
الأدوية، منبهاً إلى غياب الرقابة أدى إلى تفشي بيع أدوية منتهية الصلاحية أو
تالفة.
أرقام صادمة
وفي تقرير سابق،
كشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسف” عن اعتماد الغزيين على “بدائل
قاتلة”، مثل تناول مكملات غذائية للأطفال من قبل البالغين، أو استخدام عسل ملوث
بدل المضادات الحيوية، ومشروبات عشبية كبدائل لأدوية الضغط، ما رفع معدل الوفيات
بنسبة 40%.
الدكتور زكري
أبو قمر، نائب المدير العام للصيدلة في وزارة الصحة بغزة، أوضح أن الحرب تسببت في
تدمير 87% من الصيدليات، مشيرا إلى أن العجز في الأدوية الأساسية بلغ 37% بواقع
229 صنفًا، فيما نفدت 59% من المستلزمات الطبية (597 صنفًا).
وبين أن أدوية
السرطان وأمراض الدم مفقودة بنسبة 92%، يليها نقص حاد في أدوية صحة الأم والطفل
(51%)، والمطاعيم (42%)، وأدوية الكلى والغسيل الدموي (25%)، وأدوية الصحة النفسية (24%).
سيناريوهات سيئة
ويقول مدير عام
وزارة الصحة في غزة د. منير البرش، إن النقص لا يقتصر على صنف واحد بل على مجموعات
تمثل عصب النظام الصحي، موضحا أن العمليات الجراحية والطوارئ تواجه نقصا في مواد
التخدير، ومحاليل التعقيم، وخيوط جراحية، حيث أجبر الأطباء على تأجيل عمليات غير
مهددة لحياة المريض ولكنها ضرورية لمنع مضاعفات لاحقة؛ وفي حالات الطوارئ يُضطر
الفريق إلى استخدام بدائل أقل أمانًا أو تقنين الجرعات.
ويضيف أن أصحاب
الأمراض المزمنة كالسكري، لا يجدون الأنسولين بشكل منتظم، ومرضى أمراض القلب
والضغط يواجهون انقطاعًا في أدوية تنظيم الضغط ومضادات التخثر للوقاية من الجلطات،
والكثير من مرضى الصرع يُعرضون لنوبات متكررة بسبب غياب مضادات النوبات وهي أدوية
عصبية ليس من السهولة العثور عليها في الصيدليات.
ويلفت البرش إلى
أن أدوية الأورام والعلاج الكيميائي ومستلزمات غسيل الكلى إما نادرة أو مفقودة،
“ما يعني تحويل حالات كانت قابلة للإدارة إلى حالات خطيرة أو وفاة محتملة”.
كما تحدث عن
انقطاع خدمات مختبرية، كالنقص في شرائح الاختبار ومحاليل التحليل ومواد حفظ الدم،
“ما يقلص قدرة المستشفيات على تشخيص الإصابات وتقديم نقل دم آمن، ويفاقم الوفيات
بين المصابين”.
ويشدد المسؤول
الصحي على استمرار الأزمة يعني ارتفاع الوفيات غير المباشرة لغير المصابين بالقصف:
مرضى مزمنون، أطفال، حوامل، وكبار سن سيعانون زيادة ملحوظة في الوفيات بسبب فقدان
علاج بسيط ولكنه حاسم.
وينبه البرش إلى
احتمالية انتشار عدوى مقاومة وخطر أوبئة محلية بسبب جروح ملوثة وغياب تعقيم كافٍ،
ما يزيد العبء على المنظومة الصحية المنهكة، مؤكدا رصد عدوى مقاومة للمضادات
الحيوية.
جريمة حرب
وتغلق سلطات
الاحتلال منذ الثاني من مارس/ آذار 2025، جميع المعابر مع القطاع، مانعة دخول معظم
المساعدات الغذائية والطبية، مما أدى إلى انتشار المجاعة وفقدان آلاف الأرواح.
ووفقًا للقانون
الدولي الإنساني، تتحمل إسرائيل – بوصفها قوة احتلال – مسؤولية قانونية مباشرة عن
ضمان تدفق الإمدادات الطبية وحماية عمل المستشفيات في قطاع غزة. فقد نصّت اتفاقية
جنيف الرابعة (المواد 23، 55، 56) على وجوب السماح بحرية مرور شحنات الأدوية،
وتأمين احتياجات السكان من العلاج، وتشغيل المؤسسات الصحية دون عوائق.
كما أكّد
البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 (المادتان 12 و70) على حظر استهداف الوحدات
الطبية أو منع الإغاثة الطبية عن المدنيين، بينما أقرّ العهد الدولي الخاص بالحقوق
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة 12) بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى
من الصحة الممكنة. وبموجب القانون الدولي، فإن عرقلة دخول الأدوية أو استهداف
النظام الصحي لا يشكّل فقط انتهاكًا لهذه الالتزامات، بل يرقى إلى جريمة حرب.