إزالة الركام في غزة يحتاج 14 عامًا أردوغان يلوّح باحتمال قطع العلاقات مع (إسرائيل) الاحتلال يواصل إغلاق مدخل قرية حوسان لليوم الثاني على التوالي بعد الولادة المعجزة.. وفاة رضيعة غزة التي خرجت من جثمان أمها جامعة جنوب كاليفورنيا تلغي حفل التخرج بسبب احتجاجات مناهضة لـ(إسرائيل) حزب الله يعلن تدمير آليتين لجيش العدو قبالة الحدود الجنوبية رغم الانتهاكات.. بايدن "لن يعاقب" كتائب عسكرية (إسرائيلية) عودة خدمات الإنترنت الثابت في وسط وجنوب قطاع غزة البنتاغون: سفن أمريكية بدأت بناء المراحل الأولى من ميناء مؤقت بغزة صحيفة أمريكية: (إسرائيل) قصفت مواقع إغاثة غربية بعد إخطار الجيش بها قوات الاحتلال تقتحم عزون وجيوس وتداهم منازل تحذير من "العفو الدولية" لبريطانيا بشأن تصدير الأسلحة إلى (إسرائيل) مستعمرون يقتحمون منطقة الكرمل الأثرية في يطا واشنطن: تصريح نتنياهو عن مظاهرات الجامعات ليست تدخلا بشؤوننا شهداء وجرحى في غارات للعدو على غزة واستشهاد صياد في رفح

القسم : بوابة الحقيقة
صحراوية الثقافة العربية
نشر بتاريخ : 2/24/2018 12:47:14 PM
أ.د. محمد الدعمي


بقلم: أ.د. محمد الدعمي

في سياق نظريته التي إشتهر بها، ازدواجية الشخصية العراقية، لاحظ عالم الاجتماع الراحل الدكتور علي الوردي أن البداوة تختبئ طي دواخل هؤلاء الذين يبدون متمدنين بالملابس الغربية، إلا أنها سرعان ما تطغى وتظهر على الرجل العربي لتحيله إلى بدوي وسط الصحراء حالما يكون هو على المحك.

سجلت، شخصيا عبر سني تفاعلي مع التاريخ العربي عددا من الظواهر اللافتة للنظر حتى تمكنت من بلورة ما يمكن أن أسميه “بداوة المثقف في العالم العربي”، لا أقصد بلفظة “البداوة” في هذا السياق عادات التفكير والتقاليد البدوية فقط، وهي دلالات ضمنية، بقدر ما أشير إلى اختيار “الترحال” من مكان لآخر بحثا عن الكلأ والماء، وهو الاختيار الذي تمرس عليها البدو الرحل منذ الأزل؛ ونستهوي بدو الثقافة العربية، ليس في البوادي القاحلة، ولكن عبر حواضر العالم، الغربي خاصة.

عندما نراجع تاريخ العرب ونتمعن به بدقة، تطفو أمامنا قصص العقول الذكية والأذهان والمثقفة عبر سنوات الماضي، إذ إننا لا بد أن نستمكن نوعا من البداوة التي لا بد وأن استحلبها المثقفون والموهوبون العرب من تراث أجدادهم البدو الرحل (الذين بزوا الأمم الأخرى في الشعر)، بلا حول ولا قوة، على سطح رملي لا زمني ولا مجدي، درجة تشبيه المصادر الغربية العرب بجدهم، “إسماعيل”، فقد اعتمد المثقف العربي طوال تاريخ الثقافة العربية، ذات النمط البدوي المتنقل من أجل العيش، أساسا لبقائه وأسلوبا للمناورة من أجل إطالة حياته والنجاة بعبقريته، من سلطة الدولة وجبروت وأولي المال. هنا نشير إلى سلطة الدولة كمعاكس لسلطة المفكر، إذ يشوب الشد والجذب بين السلطتين مذ بدايات الوعي العربي بالذات.

لا تخفق تواريخ الفكر العربي في التعريف، بالصعاليك الذين كانوا ينتفضون ضد سلطة القبيلة ليفلتوا عبر “الهوام” بحثا عن بعضهم أو عمن يرعاهم في سبيل البقاء وإدامة عطاء أدمغتهم الفطنة. أما إذا ما غادرنا الوجود الصحراوي لننتقل من “الأعراب” إلى عرب الحواضر، فإننا لا بد وأن نصطدم بظاهرة الانتقال المتواصل البدوية البدوية الأصل، احتجاجا أو بحثا عن الملذات والتجارب، درجة الوصول إلى البداوة الصحراوية الحقيقية عند كبار شعراء ومفكري تاريخ ثقافتنا، ابتداءً من شعراء العصر الجاهلي، مرورا بأقرانهم في العصرين الأموي، ثم العباسي، ومع المتنبي وسواه من “بدو الفكر” العربي الذين ابتنوا بداوتهم على فكرة استخلاص كل ما هو ممكن وأفضل ما هو متاح من هذا الأمير أو ذاك الوالي، من هذا الراعي أو ذاك البطل، من أجل البقاء وتجاوز صعوبات الحياة المميتة في “يباب” العالم العربي كي لا يواجه مصير أبي منصور الحلاج الذي صلب، فقط لأنه أعلن بأنه هو “الحق”. وقد برهن أعظم شعراء العربية، مثل أبو الطيب المتنبي، على بداوة الفكر حتى قتل بالقرب من النعمانية أثناء واحدة من رحلاته البدوية، إذ ظفر به قاتل نكرة، فلم يرحمه ولم يرحم الأدب العربي بأسره. وذاك هو قبره مهمل على الطريق الواصلة إلى البصرة عبر الكوت.

وإذا كان بدو الفكر والثقافة العرب كثيرين في العصرين القديم والوسيط، أي بين جيل الصعاليك وجيل المتنبي، مرورا بسواهم من الأجيال عبر العصر الأموي، حيث راحت العصبيات القبلية والفرقية تفاقم وطأتها على العقل الحساس حتى تحولت إلى أدوات قتل، فما فتئ العصر الحديث يمور ببداوة الفكر والثقافة، حيث “المثقفون الرُحل” الذين يتنقلون من مدينة إلى مدينة بحثا عن الرعاية والحماية، الجاه والثروة، من بين أغراض أخرى.

وقد جسد السيد جمال الدين الأفغاني، أحد أساطين ما يسمى بالنهضة العربية الإسلامية ذلك، إذ كان من أكثر “بدو الفكر” إثارة للانتباه وللإعجاب وللجدل في آن واحد. هذا هو العقل الذي كان كلما نزل في ضيافة ملك أو أمير، فإنه ما لبث أن غادره غاضبا أو محتجا بعد فترة وجيزة، بحثا عن راعٍ آخر، خاصة وأن جميع رعاته قد اشتركوا بالشك به وبأنشطته الفكرية والسياسية. لذا كان الأفغاني مثالا للشخصية “المتلونة” المناورة، العصية على التشخيص والفهم، فهي الذات “الهلامية” التي كمنت في قلب سيرته منذ سني حياته الشابة مذ درس علوم الفقه في النجف الأشرف جنوب العراق، حيث كان يضع العمامة السوداء، حتى سني حياته في الأستانة، حيث توفي بسرطان الفم والبلاعيم وبكمد معاناته من الذين حاربوه وأرسلوا العيون لمراقبته، فاضطر إلى التنقل كالزئبق وإلى التورية على آرائه وهويته الحقيقية والمناورة بهما على سبيل الاختفاء والتواري من آن لآخر على سبيل البقاء، دون أن يعرف أحد حقيقة أمره على وجه التأكد، فيما لو أنه كان يتبع هذا المذهب أوذاك؛ أفغانيا أم إيرانيا، بل إن هناك من مجايليه من يشك في أنه كان لا يعرف كيف يؤدي الصلاة. إنه الأنموذج الأكثر وضوحا وإثارة للاهتمام في تاريخ بداوة المفكر العربي، من بين سواه من نماذج بدو الفكر الرحل في العالم العربي الحديث، حيث جاء تقديمه طلبا للانضمام إلى المحفل الماسوني في القاهرة تتويجا لبداوته و”اللاانتماء” والرغبة بالارتقاء فوق محدوديات العصبيات الدينية والطائفية والسياسية. لذا استحق السيد جمال الدين الأفغاني لقب “شيخ المفكرين البدو” في بدايات عصرنا الحديث هذا، بكل كفاءة واستحقاق. وهكذا عكس شعراء ومفكرو العصر وجودا تائها وهائما أشبه ما يكون ببداوة الصحراء الجاهلية: “هل غادر الشعراء من متردم/ أم هل عرفت الدار بعد توهم”. وتنطبق ذات الحال على السيدة المعروفة باسم “قرة العين”، بالرغم من أنها فارسية ولكنها مضخمة بالثقافة العربية (لاحظ كتابي: الإسلام الآخر) (بيروت: دار الموسوعات العربية، 2013).

أما في العصر الحديث، فقد تفاقمت “بداوة المفكر العربي” بسبب الضغط والاضطهاد السياسي والاجتماعي، درجة انتقاله بالكامل من الوطن للاستقرار في المنافي لأسباب كثيرة أهمها التنافر بين سلطة الثقافة وسلطة الدولة البوليسية، لذا تجد أشهر هؤلاء المثقفين والمفكرين منتشرين في عواصم “العالم الغربي”، باحثين عن الحرية التي لم يجدوا لها أثرا كذلك الذي كانوا يرمون إليه في مساقط رؤوسهم. هكذا قضى أبرع وأبرز كتابنا وشعرائنا أطول مراحل حياتهم المنتجة مغتربين متنقلين بين المنافي، ومنهم المرحوم محمد مهدي الجواهري، “شاعر العرب الأكبر”.

للمرء تأشير ظاهرة البداوة الثقافية هنا والتنويه إلى امتطاء هؤلاء المثقفين الرحالة “الحرب الباردة” التي بقيت، ولم تزل مستعرة بين بعض الأنظمة الحكومية في الشرق الأوسط العربية لعقود، إذ اعتادت هذه الأنظمة الظفر بهذا المفكر أو ذاك الشاعر لاستثماره، ليس حبا به أو بومضات عبقريته الوقادة، ولكن نكاية بالنظام القائم في دولة جارة مضادة، وهكذا دواليك.

جميع الحقوق محفوظة © الحقيقة الدولية للدراسات والبحوث 2005-2023