القسم : بوابة الحقيقة
سياسات الهوية
نشر بتاريخ : 5/5/2018 5:38:49 PM
أ.د. محمد الدعمي


بقلم: أ.د. محمد الدعمي

 

للمرء أن يعتمد التعبير الاصطلاحي: “سياسات الهوية” identity Politics للإشارة إلى اعتماد الكيانات أو الجماعات أو المؤسسات مبدا سياسيا يقرر مسبقا تقويمه وتقييمه للفرد على أساس الهوية العرقية أو الدينية أو السياسية الموروثة. بل وحتى الجغرافية واللغوية: فأنت لا يمكن إلا أن تكون “كذا” ما دمت تنتمي إلى المجموعة السكانية المعنية، على نحو تلقائي، لا مفر منه.

 

هذا النوع من السياسات يعد الأخطر على وجود الكيانات التي تعتمده، نظرا لأنه موقف شرذمي مسبق. وهو بهذا المستوى العالي من الخطورة على نحو يهدد وجود هذه الكيانات، خاصة إذا ما اعتمدته الدولة: أي أن الدولة تقرر مسبقا ما أنت (مواطنا) تعتقد به وتحتضنه من موقف سياسي، ليس على أساس من تيقناتك أو آرائك المعلنة، أو المنشورة، أو على أساس انتمائك إلى حركة فكرية أو فلسفية أو سياسية معينة: ودليل ذلك ما جرى في عدد لا بأس به من دول الشرق الأوسط التي تنحي بلائمة اعتماد سياسات الهوية على “الاستعمار الأجنبي” (باعتبار: فرق تسد)، فتعده أصل اعتمادها هذه السياسة مسبقة التقييم المعياري: فأنت “انفصالي” إن انتميت إلى أقلية دينية أو إثنية، مهما فعلت لتؤكد عكس ذلك؛ أو أنك يساري إن ولدت بين أحضان أسرة عرف كبارها بالانتماء للحزب الشيوعي، على سبيل المثال. كما أنك “متعصب” دينيا و”طائفيا” إن كان انحدارك الجغرافي أو العدائي من أسرة عرفت بالتشدد الديني والمحافظة على التقاليد الروحية والطقوسية للطائفة الدينية التي تعود إليها تلك الأسرة. وعلى هذا المنوال القياسي الخاطئ، يأخذ كل فرد تقييمه، ثم يكتسب موقف الدولة منه ومن آماله وأفكاره حال تولده في نقطة زمانية ومكانية معينة: هو من أسرة إقطاعية (أي أنه رجوعي بالوراثة)، أو هو ولد لعائلة تعتنق تقليدا دينيا معينا، إذا هو متعصب ومثير للشغب؛ أو أنه ولد لوالدين معروفين بالانتماء لحركة سياسية معينة، إذا هو محسوب على هذه الحركة ومشتقاتها، وعضو فاعل فيها بسبب هوية والديه.

 

عندما تعتمد الدول هذا التقييم المعياري، وعلى نحو مثبت دستوريا، تكون هي قد حكمت على نفسها “بالإعدام شنقا حتى الموت”، كما يقال. ومرد ذلك هو أن الفرد يأخذ مكانه وموقعه في دواخل السلم السياسي والاجتماعي، ليس تأسيسا على ما يفعل، أو على ما يؤمن به، وإنما تأسيسا على اعتبارات مسبقة قد تخطئ وقد تصيب!

 

وهنا تكمن بذور التفكك في بنية تلك الدولة، خاصة عندما تتخطى سياسات الهوية حدود التصنيفات السكانية التقليدية، من نوع ما كان يجري في العراق عند تأسيس الدولة العراقية أوائل القرن الماضي: إذ تم تصنيف السكان إلى “حضر” و”بدو” و”سكان أرياف”، وكان ذلك التصنيف مقبولا حقبة ذاك لأنه لم يعتمد الانتماءات الإثنية أو الدينية أو الجغرافية الخطيرة الفاعلة الآن، تلك الانتماءات التي حضرت مؤخرا على نحو لا مبرر!

جميع الحقوق محفوظة © الحقيقة الدولية للدراسات والبحوث 2005-2023