نشر بتاريخ :
23/05/2022
توقيت عمان - القدس
1:51:14 PM
زكريا.. أخوك داوود استشهد
اليوم، الخامس عشر من أيار عام 2022،
الساعة العاشرة صباحا، زكريا الزبيدي لا يعرف ما يدور على الأرض، فلا هاتف ولا
راديو ولا جريدة ولا أناس، يعيش في عزلة تامة عن العالم، فقط يلتقط ما يبلغه به
المحامون كل عدة أسابيع.
الزبيدي يعرف بأنه ابن النكبة، ابن
قيساريا، ابن شواطئها وقلاعها ومدرجاتها الأثرية وأسوارها وعمرانها المدهش، ابن
رائحة البحر وسكة الحديد والميناء.
بعد أن أدى صلاة الضحى، وتناول إفطار
السجون القذر والفقير جدا، بدأ كعادته يتمشى بزنزانته في سجن عزل سجن "ايالون"
القريب من يافا، في تلك المساحة الضيقة، التي لا تتجاوز ثلاثة أمتار، وتضيق بحمام
داخلها، كحال كافة الزنازين في معتقلات الاحتلال.
في تلك الاثناء، كان شقيقه داوود يلفظ
أنفاسه الأخيرة، ليتعمق في تراب البلاد، بعد أن اختار الله له هواء حيفا
"مستشفى رمبام"، ليكون آخر ما يتنفسه من هواء ورائحة فلسطين الزكية.
تصعد روح داوود إلى السماء، لترى
البلاد كاملة.
عندما قرأت خبر استشهاد داوود على
مواقع التواصل الاجتماعي، تبادر إلى ذهني كيف من الممكن أن يخبر شخص آخر بفقدان
شقيقه؟! حتى في ظرفٍ عادي، لا يشبه ظرف زكريا، اسير معزول ينتظر محاكمته مع خمسة
من رفاقه تمكنوا من انتزاع حريتهم من سجن "جلبوع"، وفقد والدته وشقيقه
في اجتياح الاحتلال لمخيم جنين عام 2002.
أخذت افكر في طريقة نقل الخبر لزكريا،
وللحظة تخيلت أنني تمكنت من التسلل عبر جسر هوائي إلى زنزانة زكريا. أعرف أن ذلك
من المستحيل، لكن، ألم يكن مستحيلا حفر محمد العارضة ومحمود العارضة وزكريا
الزبيدي ومناضل انفيعات وأيهم كممجي ويعقوب قادري، نفقا بطول 25 مترا تحت الأرض،
والتسلل عبره إلى كل الأرض فجر السادس من أيلول 2021؟!.
أطلقت عنان أفكاري لدقائق، هل اربت على
كتفه من الخلف ولحظة يلتفت أحتضنه وابدأ البكاء؟ وعندها سيعلم مباشرة أن مكروها
حصل، أم أقف أمامه وأحدق بحزنٍ متقن في عينيه؟ أظن أن الأمر أكثر تعقيدا في
الحياة.
تسعفني معرفتي بتاريخ العائلة، وأن
خبرا كهذا مهما كان صاعقا، سيُفهم ويُستوعب، فالام "سميرة" شهيدة،
والشقيق الأكبر "طه" شهيد، خلال اجتياح مخيم جنين في نيسان 2002، والجد
مقاتل زمن الانتداب البريطاني والنكبة، ثم أسيرا، قبل أن يحرر نفسه في الهروب
الكبير من سجن شطة –سنة 1958-، ثم شهيدا في بدايات السبعينيات.
الزبيدي تربى في بيت لم يبقَ منه أحد
لم يدخل معتقلات الاحتلال، جبريل وعبد وداوود ويحيى، وامتداد لأقارب ذاقوا معاناة
مريرة بفعل الاحتلال.
زكريا نفسه، عاش مطاردا، واصيب عدة
مرات، ونجا من أربع محاولات اغتيال، وأسيرا مرتين لعدة سنوات، الأولى وهو طفل في
سن 12 عاما، وهدم ونسف الاحتلال منزل عائلته ثلاث مرات، أولاها في الانتفاضة
الأولى (1987-1993).
كل هذا المحيط الوطني المليء
بالتضحيات، طمأنني قليلا، لكن في النهاية يبقى خبر استشهاد شقيقه داوود صادماً
وقاهراً...
كما تنطلق الرصاصة، مدوية، دون موعد،
ولا رجفة، فجرتها في وجهه: زكرياااااا استشهد أخوك داوود... ومثلي صرخ زكريا:
دااااااااوود.
بعد قليل سيهدأ زكريا.. سيهدأ من الوجع
الظاهر، ليتنقل للوجع الخفي، تنتقل الملامح الغاضبة لتصبح حسرة داخلية، وينتقل
البكاء للقلب!
نعم، هي صورته التي نراها في المحاكم،
شامخاً، جريئاً، متحدياً، صورته التي لم ولن يهزها شيء أو أحد، وهو أيضاً الانسان
البسيط صاحب الذكريات ورفيق داوود.
سيخرج بعد قليل زكريا إلى الفورة،
ساعتين في ساحة صغيرة مغطاة بالأسلاك الشائكة والجدران الاسمنتية، فقط قليل من
السماء والنهار يصلها، هنا، في هذه الفوهة الوحيدة التي يطل بها زكريا على الحياة،
تتجمع طيور الوطن، لتحوم فوق رأسه، تزقزق وكأنها تنشد:
اليك نجيء
بنا وجد
اذا مدته ريح هواك
فوق الأرض فوق البحر يمتد
وان متنا فلا نرتد عن عينيك
بل انا إلى عينيك نرتد
همسنا في جذور الزرع يا وطني
بأنك وحدك العهد
ونرضع حبك الأطفال
ما ولدوا
وليس يعوقهم عن زحفهم للأرض
لا مهد ولا لحد
فتى يأتي يزنره الهوى والوجد
تلو فتىً
وتلو فتىً
فيا اعداءنا عدّوا
* اليك نجيء يا وطني
الحقيقة
الدولية - وكالات